رؤى

مانسا موسى الأول…الملك الذهبي

في عام 2015 نشرت مجلة فوربس الأمريكية المتخصصة في عالم الثروة مقالا تصدره عنوان لافت : لو أن هذه المجلة صدرت في القرن الرابع عشر الميلادي وتحديدا عام ١٣٢٤ فمن هو الشخص الذي كان يمكن أن يتصدر قائمة أغنى أغنياء العالم التي تصدرها المجلة بشكل سنوي؟

وكانت الإجابة التي قدمتها المجلة هي أن أغنى شخص عرفه العالم آنذاك وربما حتى يومنا هذا هو الملك موسى الأول أو “مانسا موسى” الملك المتوج وقتها على عرش أكبر إمبراطورية عرفتها منطقة غرب أفريقيا وهي إمبراطورية مالي.

ونقلت المجلة عن المؤرخ البريطاني المتخصص في الشأن الأفريقي مارتن ميريديث قوله إن مانسا موسى قد يكون أغنى رجل عرفته البشرية.

غلاف مجله فوربس
غلاف مجله فوربس

وُلد موسى الأول عام ١٢٨٠ للميلاد وتولى عرش إمبراطورية مالي عام ١٣١٢ وهي الإمبراطورية التي أسسها جده الملك سوندياتا كيتا٫ وحكم موسى تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف لمدة ربع قرن من الزمان حتى وفاته عام ١٣٣٧.

وحين تولى الملك الشاب الحكم٫ كانت إمبراطوريته تتحكم٫ وفقا لإحدى التقديرات٫ بنحو ثلث مناجم الذهب في العالم٫ ناهيك عن تجارة الملح عبر الصحراء الإفريقية التي كانت مربحة للغاية لبلاده مما جعل ملوكها ينعمون بثراء فاحش.

وأشارت مجلة فوربس إلى أن ثروة موسى الأول عند وفاته تقدر بحسابات زماننا هذا بنحو ٤٠٠ مليار دولار وهو رقم يتضاءل بجواره ثراء مؤسس شركة مايكروسوفت الأمريكية بيل غيتس الذي تبلغ ثروته نحو ٨٢ مليار دولار.

وتحفل كتب التراث والتاريخ الإسلامي بروايات مدهشة عن رحلة حج الملك موسى الأول إلى مكة المكرمة٫ حيث شهدت أغلب الأقطار الإسلامية التي مر بها الملك في طريقه إلى أرض الحجاز مظاهر من ثراء الملك وسخائه الشديد.

خريطة إمبراطورية مالي
خريطة إمبراطورية مالي

ويشير أستاذ التاريخ الإفريقي في جامعة الموصل بشار أكرم جميل في دراسة له عن هذه الرحلة أن سيرتها “وصلت كل بقاع الأرض حينها فسمع بها نصارى روما ومسلمي الأندلس والمرينيين في المغرب والمماليك في مصر وأهل مكة والمدينة وبلاد الشام”.

ولدى وصول الملك إلى مصر أهدى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون مجموعة من الهدايا القيمة في مقدمتها أربعين ألف دينار كما قدم للعامة عشرة آلاف دينار كما ذكر ابن خلدون.

وعمد موسى إلى التباهي بقوة بلاده وما تملكه حيث اصطحب معه في هذه الرحله كما يذكر المؤرخ الذهبي”ألوف من قومه” كما رافقه “اثنا عشر ألف جارية لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني”.

وكانت هذه البعثة تضم مئات الجمال المحملة بالذهب والهدايا، وكان كل جمل محملة بـنحو 160 كيلو غراما من الذهب، وكل خادم يحمل صندوقا من الذهب.

ومن الطريف حقا أن الملك عمد إلى توزيع هذا الذهب على الناس في طريقه إلى مكة خاصة في القاهرة والمدينة المنورة، ما تسبب في هبوط أسعار الذهب لفترة طويلة بعد زيارته حيث يشير المؤرخ المقريزي إلى “انحطاط سعرالدينار ستة دراهم بسبب كثرة الذهب” وشراء الملك موسى للجواري والثياب الفاخرة بأثمان غالية.

ويشير الرحالة ابن بطوطة إلى أن مانسا موسى رفض عند لقائه بالسلطان المملوكي عادة تقبيل الأرض بين يدي السلطان مُصرا على أن يلتقي الناصر لقاء الند بالند٫ وفي ذلك دلالة سياسية غير خافية٫ إذ كان موسى يرى نفسه ودولته الممتدة في الغرب الأفريقي نظيرا لدولة المماليك التي ضمت مصر والشام والحجاز.

إلا أن اللافت في هذا الصدد هو أن موسى رغم ثرائه لم يكن بالغني المتعالي بل كان كما يقول ابن خلدون “ومن معه من الحجيج مرتدين لأفضل الملابس وأنظفها٫ ملتزمين بإعطاء الصدقات وأعمال البر”.

كما ذكر المؤرخ السعدي أنه – أي موسى- كان يبني مسجدا في كل مدينة أو قرية يصادف مروره بها يوم الجمعة.

كما لم يستخدم موسى الأول هذا الذهب الوافر في البذخ والسفه كعادة محدثي النعمة بل وظف هذه الثروة الطائلة في سبيل العلم٫ حيث أسس العديد من المساجد والمدارس في كل من مدينة “تمبكتو” التي بلغت شهرتها حد الأساطير ومدينة جاو على ضفاف نهر النيجر.

تمبكتو
مدينة تمبكتو

ولعل أبرز المساجد التي أسسها هو مسجد “سنكوري” أو المسجد الكبير في تمبكتو الذي تجاوز دور دار العبادة إلى جامعة يأتيها طلبة العلم من كافة أنحاء غرب إفريقيا وتخرج منها العلماء مثل الفقيه أحمد بابا التمبكتي وغيره.

وبفضل كل ما تقدم نقش الملك موسى اسمه واسم بلاده في الذاكرة الأوروبية خاصة مع ذكر اسمه في الأطلس الكتالوني الذي يعد أهم خريطة في فترة العصور الوسطى ويتضمن صورته ممسكا بقطعة من الذهب على شكل بيضة٫ حيث كانت بلاده مصدر نحو نصف الذهب الذي كانت تستهلكه أوروبا أنذاك.

مسجد سانكوري
مسجد سانكوري

إن أهمية قصة الملك مانسا موسى الأول هي أنها تكشف عن تاريخ إفريقي تعمد الاستعمار الأوروبي التعتيم عليه لتكريس أسطورة أو قل أكذوبة أن الفقر الذي تعاني منه بلاد إفريقية عدة اليوم هي نوع ما من أنواع القدر وليس نتيجة عملية نهب منظمة لموارد القارة بدأ منذ القرن السادس عشر ولازال مستمرا حتى يومنا هذا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock