“لم تحظ أمة من الأمم بالعناية في كتاب مفرد يصف أحوال أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، في تفصيل مذهل، مثلما حظيت الأمية المصرية في ذلك السِفر الضخم الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، تحت عنوان “وصف مصر”، الذي حرصوا فيه على تسجيل كل كبيرة و صغيرة في حياة شعبها، بحيث جاء الكتاب موسوعة شاملة تُصَوّر تفاصيل الحياة المصرية، ليس فقط في أثناء السنوات الثلاث التي قضتها الحملة في مصر، وإنما عمل علماء الحملة على أن يُقلِّبوا في ذاكرة الزمن، وأن يمدوا بحوثهم إلى ما سبق من تاريخ مصر في القديم والحديث.. وتوسعوا ببحوثهم وملاحظاتهم إلى كل نواحي الحياة و ألوان النشاط في مصر، ويكفي أن تنظر في المجلدات التي تتناول أحوال مصر في الدولة الحديثة لنجد أدق التفاصيل مما يتعلق بشتى النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية…….”
مقدمة مجلد اللوحات بقلم: “عفت شريف”، زوجة “زهير الشايب”، التي اضطلعت باستكمال نشر الترجمة العربية للموسوعة بمشاركة ابنته الدكتورة “منى زهير”، بعد وفاة “الشايب”
منهج الترجمة العربية الكاملة
حرص مترجم موسوعة وصف مصر الأستاذ “زهير الشايب”، على أن يضع عبارة “الترجمة الكاملة” على رأس الغلاف في معظم مجلدات أو أجزاء الموسوعة، التي قام بترجمتها ونشرها، حيث يذكر في مقدمة المجلد الثالث: “….. وأقصد بالترجمة الكاملة، النص الكامل، حيث لا تتعرض الدراسات التي تقدم هنا لاي تصرف من أي نوع… وسوف يلاحظ القارئ إنني لجأت الى اختيار عناوين للدراسات أسرع من العناوين الأصلية لها وأكثر حداثة، ولقد كان ذلك ضروريا، فقارئ اليوم لا يستسيغ عنوانا لدراسة يبلغ أحيانا حوالي ثلاثة أو أربعة أسطر، ومع ذلك فقد قدمت ترجمة حرفية لعناوين الدراسات، وأرجو ألا يجد البعض في ذلك تصرفا معيبا.”
ما وصلنا من النسخة العربية لموسوعة وصف مصر، عشرة أجزاء (أو مجلدات)، علاوة على مجلد ضخم يضم لوحات تُصَوِّر “الدولة الحديثة أو الحالة الحديثة لمصر”، كما جاء بعنوان هذا المجلد.
وكما ذكرنا في مقال سابق أن زهير الشايب أصدر في حياته سبعة مجلدات من ترجمة موسوعة وصف مصر، أما المجلدين الثامن والتاسع فكانا معدين للطبع وصدرا بعد وفاته (توفي الشايب رحمه الله في الخامس من مايو 1982).. في حين ترك المجلد العاشر في صورة مسودة، جمعته وراجعته ابنته الدكتورة “مني الشايب”، وأصدرته باسمه، وكتبت في صدر المجلد مقدمة طويلة… أما مجلد اللوحات والرسومات فقد أخرجته وكتبت مقدمته الأستاذة/ عفت شريف، زوجة الشايب بعد وفاته.
وسوف نستعرض فقط، في هذه المقالة، ما أورده المترجم الأستاذ/ زهير الشايب، من ملاحظات في المقدمات التي حوتها المجلدات، حول المنهج الذي اختطه في ترجمة النسخة العربية من الموسوعة وصف مصر… فليس بوسعنا أو بوسع أي كان أن يعرض للموسوعة عرضا كاملا شاملا في مقال واحد أو مقالين، أو حتى عدة مقالات.. فالموسوعة ضخمة تضم في نسختها العربية 3815 صفحة، علاوة على 240 صفحة يضمها كتاب “لوحات الدولة الحديثة أو الحالة الحديثة لمصر”.
المصريون المحدثون
المجلد الأول، نُشرت طبعته الأولى عام 1976، تحت عنوان: “دراسة في عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين”، ثم صدرت طبعته الثانية بعد حوالي ثلاث سنوات عام 1979، بعنوان: “المصريون المحدثون”، أضاف المترجم في الطبعة الثانية، دراستين لم تتضمنهما الطبعة الأولى من الإصدار العربي للمجلد، ويقع هذا المجلد في 400 صفحة.
يبدأ زهير الشايب الإصدار الأول أو الطبعة الأولى من هذا المجلد (وهو فاتحة الترجمة العربية الكاملة للموسوعة)، بمقدمة نرى أنه من الأهمية بمكان استعراض أهم ما جاء بها، حيث تمثل – في حقيقة الأمر – مفاتيح فهم منهج المترجم في نقل الموسوعة من نسختها الفرنسية إلى النسخة العربية. كما تلقي هذه المقدمة الضوء على الظروف والملابسات التي تمت عبرها ترجمة الموسوعة، والداعي الذي دعا المترجم إلى الإقدام على الاضطلاع بهذا الجهد الضخم، الذي يحتاج إلى فريق كامل متخصص من المترجمين، في مجالات تخصصية مختلفة. كما يحتاج إصدارها إلى لجنة متخصصة أو دار نشر كبيرة تضطلع بنشرها، خاصة أنها تحوي مجلدا كبيرا من الرسومات واللوحات، التي تحتاج طباعتها ونشرها إلى جهد خاص.
يفتتح زهير الشايب مقدمة المجلد الأول بقوله: “على الرغم من أن وراء هذه المبادرة لترجمة كتاب (وصف مصر) – ككل مبادرة فردية – دوافعها وأسبابها وظروفها الخاصة، فإنها ينبغي أن توضع ضمن إطار أوسع وأشمل من تلك الدوافع والأسباب الخاصة، لتربط بذلك الاهتمام الكبير الذي بدأ المفكرون المصريون يولونه لتاريخهم الحديث والمعاصر بعد صدمة يونية 1967. فمنذ تلك الصدمة الهائلة، بدأت الكتب – مؤلفة ومترجمة – تصدر تباعا تتحدث عن تاريخ مصر ودور مصر.. وهكذا لم يعد التاريخ – وتاريخ مصر بالذات – مجرد دراسات أكاديمية لا يتولاها إلا المختصون، وإنما أصبح ثقافة أصيلة لكل مثقف وطني تشغله أمور بلاده.”… بهذه الافتتاحية يضع “الشايب” الأمور في نصابها، فحماسه للقيام بهذه المهمة الصعبة، لم تكن بواعثها ذاتية فقط، بل هي تنبعث من رؤية وطنية، رأى أن من واجبه الإسهام بدوره فيها.
أما منهج الترجمة، يشرح الشايب المنهج الذي اتبعه في ترجمة الموسوعة، فيشير إلى أن النسخة الفرنسية من الموسوعة، تضم تسعة مجلدات، تتوزع الموضوعات داخلها على النحو التالي: “مجلدان، لدراسة التاريخ الطبيعي لمصر، ويشتملان على دراسات عن طيور ونبات وحيوانات وأسماك وحشرات مصر…. أربعة مجلدات، لدراسة العصور القديمة، اثنان منها للدراسات، واثنان آخران لوصف أثار العصور القديمة…. ثلاثة مجلدات، لدراسة الدولة الحديثة أو الحالة الحديثة لمصر التي تبدأ تقريبا منذ الفتح الإسلامي حتى مجيء الحملة الفرنسية، لكنها عمليا تعالج أحوال مصر من العصر العثماني حتى مجيء هذه الحملة….. وتشتمل هذه المجلدات على دراسات عن مختلف نواحي الحياة في مصر كما شاهدها علماء الحملة ومهندسوها. وبعض هذه الدراسات طويلة، بحيث يمكن نشرها مستقلة في كتاب، شأن الدراسة التي ننشرها اليوم، وبعضها متوسط الطول، وبعضها مجرد ملاحظات لا تستغرق أربع أو خمس صفحات.”
وعلى ذلك ركز الشايب في تناول الموسوعة على المجلدات الثلاثة التي تتناول أحوال الدولة الحديثة، وهي المجلدات التي تضم دراسات مختلفة عن مظاهر الحياة في مصر، فقام بجمع المذكرات والدراسات القصيرة المتناثرة في المجلدات الثلاثة، التي تتناول موضوعا واحدا، أو موضوعات متقاربة، فضمها معا في مجلد واحد، لتصبح موضوعا متكاملا. فقد رتب الدراسات والمذكرات المتناثرة داخل الموسوعة، والتي تختص بنفس الموضوع، وجمعها كلها في موضوع واحد. كما سنرى عند تناول كل مجلد من مجلدات النسخة العربية من الموسوعة….
موسوعة المدن والأقاليم المصرية
جاء عنوان المجلد الثاني على النحو التالي: “العرب في ريف مصر وصحراواتها”، ويقع في 400 صفحة، يضم كل الدراسات والمذكرات التي كانت متناثرة بالمجلدات الثلاثة في النسخة الفرنسية، جمعها الشايب إلى بعضها البعض، لتشكل في مجموعها كتابا كاملا.
والمجلد الثالث، بعنوان: “دراسات عن المدن والأقاليم المصرية”، الذي يقع في 424 صفحة، هو في الواقع تجميع للمذكرات والدراسات المتناثرة حول الموضوع.
يقول الشايب في تقديمه للمجلد الثالث: “…. حين نتصفح المجلد الذي بين يدينا والذي يدور حول مدن وأقاليم مصر، نجد أنه في الحقيقة متمم للمجلد الثاني الذي سبق أن تناول بدوره مدن مصر وأقاليمها أيضا، وإن ظلت الدراسات التي اختيرت داخل إطاره تقصر حديثها على المدن والأقاليم الصحراوية، ولكننا نستطيع أن نضع المجلدين، الثاني والثالث، داخل إطار واحد يمكن أن نطلق عليه اسم (موسوعة المدن والأقاليم المصرية)، الجزء الأول: الأقاليم الصحراوية أو أطراف مصر، والجزء الثاني: الوادي والدلتا.”
موسوعة الأحوال الاقتصادية لمصر
جاء عنوان المجلد الرابع من النسخة العربية لموسوعة وصف مصر، على النحو التالي: “الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر.. الجزء الأول…. الزراعة ــ الصناعات والحرف ــ التجارة”.. ويقع في 396 صفحة.
أما المجلد الخامس فعنوانه: “الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر…. الجزء الثاني…. النظام المالي والإداري في مصر العثمانية.”… ويقع في 328 صفحة.
والمجلد السادس عنوانه: “الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر…. الجزء الثالث…. الموازين والنقود”… ويقع في 284 صفحة.
جاءت مقدمة المترجم بصدر المجلد السادس، لتعيد التأكيد على المنهج المتبع في ترجمة كامل الموسوعة، فيؤكد الشايب على ذكر هذه المنهجية فيقول: “إن نشر المجلد السادس من موسوعة وصف مصر، يكون ما أسميناه بموسوعة الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر قد اكتمل، فقد سبق أن صدر المجلد الرابع ويتناول الزراعة والصناعة والتجارة في مصر، ثم المجلد الخامس ويتناول النظام المالي والإداري، وهذا هو المجلد السادس الذي يتناول الموازين أو بالأحرى الأوزان والنقود المستعملة في ذلك العصر، وبهذا تكون الترجمة العربية قد نجحت بشكل لا بأس به في تقديم موسوعة وصف مصر مع إعادة تبويبه بشكل أقرب إلى المنهجية، أي أن الترجمة تلتزم بتقديم النص كاملا لكنها تعيد تبويب الدراسات الواردة بالكتاب الأصلي طبقا لموضوعاتها.”
موسوعة الموسيقى والغناء عند المصريين
المجلد السابع عنوانه: “الموسيقى والغناء عند قدماء المصريين”… ويقع في 195 صفحة
أما المجلد الثامن فعنوانه: “الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين”… ويقع في 463 صفحة
والمجلد التاسع عنوانه: “الآلات الموسيقية المستخدمة عند المصريين المحدثين”… ويقع في 438 صفحة
يشير زهير الشايب مترجم هذا السِفر الضخم إلى أن “المجلد السابع هو في حقيقة الأمر مقدمة لا بد منها للولوج إلى المجلدين التاليين وهما الثامن والتاسع”.. تم تجميع مادته من مكانين بعيدين كل البعد عن بعضهما البعض، لكن حسب ما ارتضاه واتخذه المترجم منهجا، فقد جمّع القسمين اللذين تتكون منهما الدراسة التي تشكل المجلد السابع، من المجلدات التي تحوي دراسات الدولة المصرية القديمة، بل إن القسمين “لم يأتيا متجاورين، لقد جاءا متناثرين:فالقسم الأول الذي يشتمل على فن الموسيقى والغناء عند قدماء المصريين، قد استغرق الصفحات من 357 إلى 1436، في حين جاء القسم الثاني والذي يتناول الآلات الموسيقية التي كان يستخدمها المصريون القدماء في الصفحات من 181 الى 209، وهكذا تجيء الترجمة العربية لتضم هذا الشتات المبعثر لتجعل منه وحدة عضوية واحدة، وليس في هذا أي ادعاء أو محاولة للتباهي، وإنما هو مجرد تبرير يجيء لدعم صحة المنهج الذي اختطته لنفسها هذه الترجمة.”
“زهير الشايب” وجزاء سينمار
لقد أهدى زهير الشايب للمكتبة العربية ولوطنه – الذي أحبه – هدية لا يمكن نكران قيمتها وفائدتها.. فقد اضطلع منفردا بإنجاز ترجمة هذا السِفر الضخم… لم تكن ترجمة الشايب لهذا السِفر، مجرد مصادفة أو عمل مقطوع الصلة بمسيرة الشايب، فقد ترجم قبل ذلك كتابين عن تاريخ مصر.. أما موقع ترجمة موسوعة وصف مصر بالذات، كما تقول زوجته عفت شريف: “فقد جاء في إطار الروح العامة التي سادت البلاد في أعقاب نكسة 1967 من البحث والتفتيش في تاريخ مصر من المقومات التي تؤكد صلابة الشعب المصري وصموده في وجه متحديه.”
وعلى ذلك جاء اهتمام زهير الشايب بترجمة كتاب وصف مصر في إطار اهتمامه بكل ما يتعلق بتاريخ مصر، وكفاح شعبها ضد القوى التي حاولت أن تسيطر على مصيره، خاصة في تاريخه الحديث. حيث يقول: “إن الهدف من ترجمتي لوصف مصر، هو أنني أردت أن أسهم في أن تستعيد مصر اسمها الذي كادت أن تفقده باتخاذ أسماء لا تاريخ لها ولا مضمون، وأن أقدم لبلدي عملا هو من أهم خصوصياتها.”
لذا فلا عجب أن يشعر زهير الشايب بالغبن مما لاقاه من عنت وترصد، ووصل الأمر إلى محاربته في مصدر رزقه وعمله، ومقابلة حسن الصنيع بسوء العاقبة، حتى انتهى بأن أدى إلى وفاته كمدا… لكن هذه قصة أخرى تحتاج إلى مقال مستقل.
المصادر:
مجلدات النسخة العربية من موسوعة وصف مصر، ترجمة زهير الشايب