رؤى

حُريّة الكلمة حق دستوري وأخلاقي

في عهد وزارة شريف باشا، صدر في نوفمبر من العام 1881 “قانون المطبوعات” الذي كان يُعدّ أوّلَ تشريع على الإطــلاق تتوجّه مواده إلى الصحافة؛ فقد منح الحكومة آنذاك الحق في مُصادرة الصحف وتعطيلها وغلق أي صحيفة بأمر من ناظرالداخلية، بل بالغ ذلك القانون في التضييق على الصحافة والجماعة الصحفية أيًّا كانت، فمنح كذلك الحق لناظر الداخلية فيمنع دخول أي جريدة أجنبية، ما دامت النظارة ترى فيها ما يستحقّ من وجهة نظرها المنع والمُصادَرَة، وقد كان طبيعيًّا أن تعتمد حكومة شريف على قانونٍ كهذا مقيّد للرأي ومقوّض لحرية الكلمة والتعبير، ولا سيّما بعد إذ بلغت معارضة الصحف أوْجها بالتزامن مع نشوب الثورة العرابية على الخديوي توفيق الذي سمح للأجانب بالتدخُّل في الشؤون الداخلية المصريّة دون اكتراث لاستقلال وطنه من قريب أو من بعيد، فكان صدور هذا القانون”المشبوه” أداةً من أدوات السُّلطة المستبدّة وقتذاك؛ لمواجهة كلّ من تسوّل له نفسه انتقاد الأوضاع، والتنبيه على الأخطاء، والإشارة إلى السلبيّات التي استاهلت انتفاضة فرقة من الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي. منذ هذا الوقت أصبح للصحافة أثرٌ جدّ كبيرفي نقل ما يعتمل في صدور وعقول كثيرين ممّن كانوا يتطلّعون إلى الحريّة والاستقلال والخلوص من الاستبداد والطغيان، فما كان من سلطة القهر  والبطش والاستبداد والطغيان تلك إلا أنسنّت قانونًا رديئًا سُمّى بــ “قانون المطبوعات” لتواجه تلك التطلّعات في مهدها حتى لا تفشو في المجتمع، على الرغم من أنّ عدد الأميين ممّن لا يقرؤون ولا يكتبون كان عظيمًا.

محمد شريف باشا
محمد شريف باشا

وقد اشتمل هذا القانون على مواد عاصفة بالحريات، قاضية على التعبير ولو بالرسوم ؛ ففي بعضها جاء النصّ كالتالي: «يجوزللحكومة في كل الأحوال حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات مهما كان نوعها أو جنسيتها متى وضحت أنها مغايرة للنظام العمومي أو الدين، وكل جريدة أو رسالة دورية تشتغل بالمواد السياسية أو الإدارية أو الدينية وتصدر بانتظام في أيام معلومة أوبدون انتظام لا يجوز نشرها إلا بإذن من الحكومة، كما أنالتبليغات التي تصدر من نظارة الداخلية بقصد نشرها يجب أن تكون في صدر أى صحيفة»، ولم تكن مواد ذلك القانون بغرض التضييق على حرية الرأي والتعبير فحسب، بل ليُحال بينالصحف والجرائد وبين الناس، فلا تصل صحيفة رأي حُرّ إلىالناس، على قلّة من يقرؤون، لكنه الخوف المتلبّس بالطّغاة والمستبدين في كلّ زمان ومكان، فهو خوفٌ يورّط في البغي، وهوبغي يورّط  في الطغيان، وهو طغيان بطعم السّخف الذي لا ينقضي، ولا شيء أشدّ بؤسًا من حُكم هو والسخف سواء بسواء!

إنّ الحقّ في التعبير مكفولٌ بموجب القوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بما في ذلك المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتي تنصّ على أن ” لكلّ شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيُّد بالحدود الجغرافية، سواءعلى شكل مكتوب ومطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخريختارها”، وقد جاء الدستور المصري، بل الدساتير المصرية المتعاقبة، ترجمة صادقة لتلك المادة وغيرها من المواد التي تحمي حقوق الإنسان في التعبير وحرية المعلومات بما في ذلك الحق في الحديث وحرية الإعلام، إما على سبيل التوسّع وإما على سبيلا لتقييد القانوني، فقد صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 536 لسنة1981 بشأن الموافقة على الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في16/2/1966، ما يعني أن هذه المادة أضحت كالقانون المصريسواء بسواء، وحتى لا نُسهِب في إحصاء المواد الدستوريّة منذ دستور 1923، فإننا نكتفي بالإشارة إلى نصّ المادة (65) من الدستور الحالي، إذْ جاء فيها “حرية الفكر والرأي مكفولة ، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غيرذلك من وسائل التعبير والنشر”..

الصحافة ليست جريمة كما نصّت المادة (70) على أنّ “حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة”، أما المادة (71) فقد نصّت بشكل مباشروصريح على أنه “يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الاعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها …… ولا تُوقَّع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشرأو العلانية…”، كما تواترت أحكام المحكمة الدستورية العليا لتؤكّد كفالة حرية الرأي والتعبير باعتبارها من الحريات الأساسية للنظام الديمقراطي، ومما جاء في أحد الأحكام الدالة الصريحة : “….. يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته، حقا مكفولا لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحريةعرض الآراء وتداولها بما يحول – كأصل عام- دون إعاقتها، أوفرض قيود مسبقة على نشرها، وهى حرية يقتضيها النظام الديموقراطي، وليس مقصودا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة، من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة، وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء في بعض جوانبها، أو تتصادم في جوهرها، ليظهر ضوء الحقيقة جليا من خلال مقابلتها ببعض، وقوفا على ما يكون منها زائفا أو صائبا، منطويا على مخاطرواضحة، أو محققا لمصلحة مبتغاة ..”

حرية الصحافةإن حرية الصحافة والإعلام ليس حقّا للصحفيين والجماعة الصحفية فحسب، بل هو حقّ أخلاقي للمواطنين كافة، فضلا عن أن الصحافة تلعب دورا بارزا في أي مجتمع ديمقراطي، فالصحافة رقيبٌ شعبيّ لأنها ملجأ الشعب للتفاعُل مع قضايا الوطن المختلفة، ولا تستطيع الصحافة، كرقيب شعبي وضمير حيّ، ممارسة دورها المعروف إلا إذا كُفِل لها الحق كاملا في حرية التعبير بعيدا عن الرقابة والتضييق، ولا صحافة حرّة دون كفالة الحرية لها، فالحرية حقّ أصيل لها، والحقوق لا تُستوهَب وإنما يُطالَب بها في حزمٍ وقوّة، على حدّ تعبير العميد الراحل طه حسين.

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock