مقدمة:
لقد مثلت غزوة تبوك منعطفا كبيرًا ومهما في تاريخ الدولة الإسلامية ،حيث أعطت لأمة الإسلام هيبة ،وبعد تلك الغزوة أصبح للمسلمين و الإسلام موقع بارز على خريطة العالم. وهي أحد الغزوات التي وقعت في شهر رجب في السنة التاسعة من الهجرة ،كما أنها آخر الغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. وهذه الغزوة تحتل مكانة عظيمة في التاريخ الإسلامي لأن المسلمين استطاعوا إثبات قوتهم أمام أكبر إمبراطورية في العالم و قتها و هي الإمبراطورية الرومانية. وبدأت تداعيات تلك الغزوة عندما قرر الرومان إنهاء القوة الإسلامية التي أخذت تهدد الكيان الروماني المسيطر على المنطقة .من هنا كان السبب الرئيس لتلك الغزوة هو التخلص من الخطر المحدق بالإسلام و المسلمين خصوصا على حدود الشام من قبل الروم الذين لم يتحملوا الخسارة في غزوة مؤتة أمام المسلمين. أيضا قيام المنافقين بمراسلة الروم و دس المكائد للمسلمين و ارتكاب العديد من الجرائم في حق رسول الله و تعرضه صلى الله عليه وسلم لمحاولات اغتيال من جانب اليهود. كما قاموا ببناء مسجد الضرار وشكل هذا المسجد مركزا لتجمع المنافقين،فقام الرسول بهدمه. وهذه الغزوة تمثل ملحمة نفسية ولم يحدث فيها قتال أو تلاحم بالمعنى الحقيقي ،لان الروم وقع في قلوبهم الرعب و الفزع من جيش المسلمين فرجعوا منسحبين. ومن هنا ظهرت قوة المسلمين و هيبتهم أمام كل من تسول له نفسه الاعتداء على المسلمين، وأصبح المسلمين من وقتها قوة لا يستهان بها.
أولا سبب التسمية : أحد أسباب تسميتها بغزوة تبوك نسبة إلى عين الماء التي وقعت عندها الغزوة و تسمى تبوك وهي منطقة تبعد عن المدينة حوالي 778 ميلا . أيضا سميت غزوة العسرة حيث كان الجو شديد الحرارة و الأرض مجدبة و شح الماء و الطعام في الطريق إلى الغزوة، فأكل المسلمون أوراق الشجر. وأيضا لم يجد الكثير من الصحابة ما يركبونه لقتال الروم، ومن هنا تخلف الكثيرين عن هذه الغزوة. وظهرت أيضا صعوبات كثيرة حتى سميت غزوة العسرة منها الشائعات و الأراجيف التي روج لها المنافقين و اليهود من قوة جيش بني الأصفر ويقصد بهم الروم،واستحالة هزيمتهم، وعدم قدرة جيش المسلمين على ملاقاتهم. كل هذه الظروف جعلت منها غزوة العسرة والشدة والضيق. وتسمى أيضا باسم الفاضحة لأنها فضحت نوايا المنافقين و أظهرت مكرهم و أظهرت عدم جدية موقفهم في الخروج، كما كشفت دورهم في كشف الإشاعات التي كانوا يروجون لها.()
ثانيا: فقر وجهاد : قدم فقراء المسلمين في هذه الغزوة جهدهم من النفقة على استحياء، ولذلك تعرضوا لسخرية وغمز المنافقين، فقد جاء أبو عقيل بنصف صاع من تمر وجاء آخر بأكثر منه، فلمزوه قائلين أن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت الآية من سورة التوبة “الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿79﴾” ومن هنا لقد حزن الفقراء من المؤمنين لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد، فهذا علبة بن زيد أحد البكائين بكى و قال اللهم إني أمرت بالجهاد، ورغبت فيه و لم تجعل عندي ما أتقوى عليه مع رسولك وأني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض فأخبره النبي أن الله عفا عنه و غفر له.
وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي أن يحملهم على أبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد، فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضى الوقت، وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ما أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء .()
ثالثا: الثلاثة الذين خلفوا : قد يكون الجهاد فرض عين على كل مسلم، كما لو عينه الإمام، ولا يجوز هنا التخلف عنه إلا بعذر شرعي. لذا عندما يستنفر الرسول المؤمنين للجهاد يخرج كل مسلم صادق، ولا يتخلف إلا أهل الأعذار الشرعية وأهل النفاق، ولكن في غزوة تبوك تخلف ثلاثة من أصحاب الرسول بدون عذر شرعي وهم: كعب بن مالك، مرارة بن الربيع،هلال بن أمية من غير عذر شرعي، تخلف الثلاثة عن الغزو الذي كان في زمان الحر الشديد. ويسرد كعب بن مالك ذلك الموقف وتلك المحنة، يقول غزا النبي تلك الغزوة حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز معه المسلمون، ولم أتجهز وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت، فلما انفرط الأمر أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أي مشهور أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله عاد راجعا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخط رسول الله، واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله من المدينة، زال عني الباطل وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق فأجمعت أن أصدقه، فلما وصل بدأ بالمسجد و جاء الناس فجاء بالمخلفون وجعلوا يحلفون و يعتذرون، فقبل منهم عذرهم. فقال لي ما خلفك ؟ فقلت و الله ما كان لي عذر حين تخلفت، فقال رسول الله أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك( )
رابعا: مبدأ الردع الاجتماعي كسبيل للتربية : لم يتخلى المجتمع عن القيام بدوره الاجتماعي في ردع هولاء المتخلفين عن الغزوة و إشعارهم بعظم الجرم الذي ارتكبوه، تصدى رسول اله صلى الله عليه وسلم بصفته القائد و المعلم و المربي لتوجيه هؤلاء و أمر الصحابة بفرض حصار اجتماعي بالمفهوم السوسيولوجي، هذا الحصار الاجتماعي و هذه العزلة الاجتماعية تهدف إلى إصلاح نفوس هولاء و الشعور بالمسؤولية في تخلفهم عن الغزو. لا أحد يتكلم معهم و لا يتعامل معهم أي معاملة ،حتى الكلام العادي. أيضا أمر رسول الله أهلهم ألا يتكلموا معهم، و طالب زوجاتهم أن يتركوا البيت لهم، و لا يعاشروهم. ومن هنا كانت الغزوة ترسيخا لمبدأ الردع الاجتماعي، والحصار الاجتماعي والعزلة الاجتماعية فرضت تلك العزلة لمدة خمسين يوما. فاللطف الإلهي شمل كل المتخلفين بعذر إلا هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا بلا عذر شرعي. ولقد صور القرآن مشهدا من تلك المقاطعة مشهد يدل على الألم النفسي الشديد الذي أصاب هؤلاء، والحزن النفسي من هذا الحصار. صور القرآن تلك المقاطعة “وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾” هنا يصور القرآن حالهم أنهم ضاقت عليهم الأرض حتى ظنوا أنه لا مكان لهم في الكون رغم اتساعه. رأوا كل الأبواب مغلقة في وجوههم . كانت تجربة الردع الاجتماعي ضرورية حتى يشعر هولاء بجرم و عظم الذنب الذي ارتكبوه و تخلفهم عن الغزو مع رسول الله. أيضا أتى الحصار الاجتماعي و العزلة الاجتماعية ثمارها شعر هولاء بالندم و شعروا بالغم و الحزن من هذا الردع الاجتماعي.
صفوة القول رسخت غزوة تبوك لمبدأ اجتماعي مهم في توجيه السلوك الاجتماعي و تهذيبه و هو مبدأ الحصار الاجتماعي و العزلة الاجتماعية مع من تخلف عن الغزو. وهذا مهم جدا أن يقوم المجتمع بدوره الاجتماعي تجاه كل من يخطأ من أجل تصحيح الخطأ و العودة إلى جادة الصواب.