فن

الحقيقة الغائبة: بين إدريس وكوروساوا

إلى أي حد يمكن أن يصل تلاقي الأفكار أو توارد الخواطر بين مبدعين في قارتين مختلفتين يفصل بينهما آلاف الأميال والفراسخ.

سؤال لا يملك المرء سوى أن يطرحه عقب مشاهدته لعملين فنيين متشابهين في جوهرهما رغم اختلاف اللغة والمنشأ: الأول هو فيلم “راشومون” للمخرج الياباني الأشهر اكير اكوروساوا والثاني هو مسرحية “المهزلة الارضية” للقصاص والكاتب المسرحي الراحل يوسف إدريس.

في كلا العملين نحن بصدد سؤال فلسفي لطالما أرق العقل البشري: سؤال الحقيقة: كيف يمكن الوصول إلى حقيقة موضوعية مجردة من أهواء البشر وأطماعهم وغرورهم؟

يطرح كوروساوا هذا السؤال في فيلمه من خلال قصة غامضة عن مقتل ساموراي، إلا أن سؤال الحقيقة يبرز حين يبدأ التحقيق في هذه الجريمة،  فكل من قاطع الطريق المتهم بالقتل وزوجه الساموراي بل والساموراي نفسه الذي يروي قصته من خلال جلسة تحضير أرواح يقدم قصة مغايرة لما حدث، قصة تتوافق مع غروره الشخصي وتجعل منه إما بطلاً او ضحيه ولا تدينه/تدينها بأي شكل من الأشكال.

https://www.youtube.com/watch?v=WOOzHnRA4Bk

كان كوروساوا أوضح في حوار صحفي أجري معه أن النقاد الغربيين أساءوا فهم فيلمه إذ أن الفيلم لا يتحدث عن”نسبية الحقيقة” كما ذهبوا وإنما عن غرور البشر الذي يبدو -على حد تعبيره- كرمال متحركة تغرق فيها الحقيقه رويداً رويدًا.

مع تعدد الروايات ومع الحيرة التي تُحدثها يبدو أثر غياب الحقيقة أو تشويهها واضحا على وجه رجل الدين الشاب الذي يتابع القضية منذ بدايتها إذ يبدو وكأنه قد فقد إيمانه بالبشر بعدما أذهلته قدرتهم على ارتكاب الشرور وعلى التلاعب بالحقائق كيفما شاؤوا .

إلا أن كوروساوا يأبى إلا أن يمنح المشاهد بعضا من الأمل في نهاية الفيلم حين يعثر رجل الدين والفلاح البسيط الذي كان شاهد عيان على القضية على طفل رضيع ترك على أطلال المعبد؟ويقرر الفلاح أن يضم الطفل المتروك إلى أولاده ويربيه في داره معيدا بذلك بعض الإيمان إلى نفس رجل الدين.

أما في مسرحية الدكتور إدريس والتي تعد من أبرز أعماله المسرحية، فإن المؤلف لا يقدم للمشاهد أجوبة بقدر ما يطرح أسئلة حائرة حول تلك الحقيقة التائهة.

يبدأ العرض المسرحي وينتهي في نفس المكان وهي عيادة طبيب، وأغلب الظن أن إدريس استوحى أحداث هذا العمل من تجربته الشخصية كطبيب في الريف المصري.

فنحن بصدد ثلاث إخوه كلهم يحملون نفس الاسم مع تغيرالأرقام فهذا محمد الأول وذاك الثاني وذاك الثالث٫ وفي حين يسعى الأول لإقناع الطبيب أن محمد الثالث مختل عقليا وينبغي إرساله إلى المصحة، يتدخل الثاني٫ الجندي السابق، موكدا أن الثالث ليس معتلا وأن الأول يسعى للسطو على أرضه.

هنا يبدأ كل من الإخوة الثلاثة برواية الأحداث من وجهة نظره الأمر الذي يزيد من حيرة الطبيب، فالحقيقة التي يظن أنه قد وصل إليها لا تلبث أن تفلت من يده ولذا فإن إدريس يرمز إلى الحقيقة في صورة سيدة تتبدل ملامحها مع رواية كل من الإخوة الثلاثة، فهي زوجة الأولى تارة وزوجة الثالث تارة أخرى وأم الإخوه الثلاثة في مشهد آخر.

وسعيًا من الطبيب لسبر أغوار هذه المتاهة الفكرية٫ فإنه يقرر أن يحول العيادة إلى قاعة محكمة وأن يعقد محاكمة للجميع دون أي استثناء، وسرعان ما يكتشف ونكتشف معه أن الأصل في غياب الحقيقة هي الملكية الفردية٫ هي الصراع على ملكية الأرض ذلك الصراع الذي بدأ باكرًا في تاريخ البشرية وحرمهم البشر من الحياة الفطرية البسيطة القائمة على التعاون والمشاركة وأبدلهم حياة مليئة بالحقد والكراهية وهو ما يسميه الطبيب بـ”المهزلة الارضية”.

يدرك الطبيب أن السبيل إلى الوصول إلى الحقيقة دون رتوش هي أن يكون كل منا صادقًا مع ذاته، إن يواجه صورته في المرآة دون خوف، وهنا تظهر له السيدة (رمز الحقيقة) مرة أخرى ليدرك أن “مهزلته” – إن صح التعبير – ليست ببعيدة عن مهزلة الأشقاء الثلاثة.

ومع نهاية هذه المسرحية المحيرة للغاية، يدرك المشاهد أن المؤلف يوسف إدريس لم يقدم له جوابا شافيًا بل على العكس زاد من حيرته عن عمد لكي يدفعه دفعا للبحث عن أجوبة لسؤال الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock