محمد التابعى :
كان مثلثه أقرب إلى مثلث متساوى الأضلاع.. لم يعدم حيلة فى تقديم رؤيته.. متخفياً وراء اسم مستعار يعكس حسه الفكاهى ونزعته الساخرة والتى سيطرت كلياً على كتاباته.. فقدم مقالات فنية في جرائد “الأهرام – السياسة – الن
يوسف وهبي يقول عن التابعي “هو الناقد الذي يسقيني السم في برشامة” وذلك بعدما تعرض لأحد عروضه.. وحين سُئل وهبى (لماذا لا تدافع عن نفسك؟) قال: أفضل أن يهاجمني التابعي في صفحة كاملة علي أن يمتدحني في سطور قليلة.. واللافت فى الحكاية الإيمان بأن ثمة نضوج يكمن فى الإنصات إلى صوت الآخر.. والذى ربما يسبب للفنان شيء من إنزعاج ولكنه ولاشك سيدفع به خطوة للأمام.. وعليه فلا وهبى تخلى عن رسالته تجاه مسرحه.. ولا التابعى توقف عن إنتاج الكبسولات.
في ضلعي الصحافة والسياسة بدا التابعي من خلف ستار كما حدث في بداية كتاباته مع “روز اليوسف” فلم يوقع مقالاته السياسية تحسباً لتوابع قد تطيح بوظيفته في البرلمان المصرى.. وبعدما تحرر من قيدها بدأ يوقع بحروف “م.ت.م” أى محمد التابعى محمد.. منذ البداية وهو مدرك متاعب الصحافة.. فيقول “إذا كتب الصحفى أُتهم في نزاهته وإذا لم يكتب أُتهم في شجاعته بأنه لا يؤدى رسالته“.. وهو لم يتخل عن رسالته أبداً طوال مسيرة نصف قرن.
الاسم النظيف“.. كلمة وجهها إلى شباب الصحفيين ونُشرت فى مجلة “الجيل الجديد” عام 1956.. أوجز وحدد الطريق لتلاميذه أعمدة الصحافة وروادها فيما بعد.. محمد حسنين هيكل، مصطفى وعلي أمين، كامل الشناوي، إحسان عبد القدوس، أحمد رجب وغيرهم.. التابعى الذى رفض أن يسافر علي نفقة الملك حتي لا يصبح مدينا لأحد عندما يقول رأيه.. أو يدون مذكراته يومياً.
آخر ساعة“ المجلة التى يتوافق تاريخ إطلاقها في ١٤ يوليو من عام ١٩٣٤ يوم الثورة الفرنسية وشعاراتها أيضاً.. (الحرية – الإخاء – المساواة)، وتناقلت الصحف مزحة مفادها أن التابعي اشتري فكرة “آخر ساعة” بخمسة قروش وباعها الأخوان أمين فيما بعد بعشرين ألف جنيه تحت ضغط أزمة ماليةّ شديدة بسبب سفرياته المتكررة للسياحة والفسحة.. والحقيقة أنه في بداية التأسيس طلب من المحررين أن يبحثوا معه عن اسم للمجلة، وكتشجيع لهم أخبرهم بأنه سيكافئ صاحب أفضل فكرة بخمسة قروش فأقترح مصطفي أمين اسم “آخر ساعة” ففتح الدرج وأعطاه الخمسة قروش.. وهو من أعتاد الإجتماع بالصحفيين العاملين معه بصفة دورية.. يناقشهم ويجرى سباقاً على أحسن مقال تم تقديمه ويكرم صاحبه.. فيحصل على 2 جنيه بينما راتبه لا يتجاوز 5 جنيهات!
التابعي يعتبر المرأة جديرة بالثقة.. فتنوب عنه زوجته في بعض الأمور وإتخاذ القرار نيابة عنه، وحدث أن أتصل به وهو نائم حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر وطلب إيقاظه فرفضت، ومن ثم طلب منها إبلاغه بأن ما كتبه عن دور الروس في حرب ١٩٦٧ سيعترض عليه السفير السوفيتي ولهذا يجب حذف إحدي فقراته، فأنهت المكالمة بإما أن ينشر المقال كاملاً أو لا ينشر، وبعد استيقاظه أنتظرت حتي تناول طعامه ثم أخبرته بأمر المكالمة، ووقتها رنَّ جرس التليفون ليخبروه أن الرئيس وافق علي نشر المقال كما هو.. وهذا بحسب رواية شريفة ابنة التابعى.
التابعي دونجوان الصحافة المصرية.. صاحب قصص الحب الأشهر.. تزوج بزوزو حمدي الحكيم.. وخطب أسمهان رسمياً.. وربطته صداقات عديدة بأهل الفن.. أكثرها حميمية سليمان نجيب.. وأيضاً نجيب الريحاني وتوفيق الحكيم وأم كلثوم التى كانت تغني أحيانا في منزله.. وعبدالوهاب والذى لم يكف قلمه عنه في الفترة التي اقتبس فيها بعض الألحان الموسيقية فأنتقده في عدة مقالات من ضمنها (أمسك حرامي).. ولم يؤثر هذا علي علاقتهما.
مصطفى وعلى أمين:
تساوى ساقا الصحافة والسياسة بمثلثهما.. إذ أن العمل بالصحافة كانت المرحلة التالية لفطامهما.. ففى عام 1922 حيث كان عمرهما ثمان سنوات أصدرا مجلة اسمها “الحقوق” مكتوبة بالقلم الرصاص وتحتوي على أخبار البيت.. الضيوف والزوار والأم والبيت والطباخ والشغالة، وعام 1924 أصدرا مجلة “سنة ثالثة ثالث” ثم مجلة “عمارة البالي” لأولاد الحي الذي يقيمان فيه.
الزعيم سعد زغلول وكون والدتهما ابنة أخت زوجته ومن ثم نشأتهما ببيته المشبع بحب الوطن والغيرة عليه ما تسبب بفصل على أمين الصبى صاحب الأربعة عشر عاما.. إذ صفع حكمدار الغربية على إثر محاولته الاعتداء على مصطفى النحاس باشا في مدينة طنطا، وبالطبع لم يكتفى من المواجهة.. فأصدر وتوأمه مجلة “التلميذ” عام 1928 وقاما فيها بمهاجمة الحكومة وانتقاد سياساتها فما لبثت أن تم تعطيلها، أعقبها صدور مجلة “الأقلام” والتي لم تكن أوفر حظاً من سابقتها حيث تم إغلاقها أيضاً.
المدرسة الخديوية ألتحق بها على أمين عام 1930 بعدما صدر عفو عنه، ولكنه ما لبث أن عاد سيرته الأولى فشارك في إضراب احتجاجا على تعطيل دستور1923، وبعد حصوله على البكالوريا من الجامعة الأمريكية سافر إلى إنجلترا وحصل على بكالوريوس الهندسة عام 1936.. بينما توأمه مصطفى أمين أستكمل دراسته بأمريكا فحصل على درجة الماجيستير في العلوم السياسية.
روزاليوسف” أنضم مصطفى أمين إليها وهو ما يزال طالباً في المرحلة الثانوية وسرعان ما تم تعينه نائباً لرئيس تحريرها.. وكان أول باب ثابت يحرره بعنوان “لا يا شيخ“، واستمر بإصدار المزيد من المجلات والصحف منها “مجلة الربيع ” و“صدى الشرق” وغيرها وكما المعتاد أوقفتها الحكومة نظراً للانتقادات التي توجهها إليها.
الأمير محمد علي” الذى حُكم على مصطفى أمين عام 1939 بالسجن لمدة ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ بتهمة العيب في ذاته.. وأُلغي الحكم عام 1942 في عهد وزارة مصطفى النحاس باشا.. لتصير واحدة بواحدة والبادئ بالمحبة حتماً منتهى إليها.
أخبار اليوم” الحلم الأكبر الذى جمع التوأمين وشهد يوم السبت 11نوفمبر عام 1944صدور أول عدد منها، ثم فى عام 1946 قاما بشراء مجلة “أخر ساعة” من التابعي.
أخبار اليوم” فضحت العدوان الثلاثي عام 1956، حيث ظل مصطفى شردي رئيس تحرير الوفد فيما بعد داخل بورسعيد يحمل آلة التصوير مسجلاً أفلاماً تفضح بشاعة العدوان.. وبأمر من القيادة حمل مصطفى أمين هذه الصور النادرة وطار بها ووزعها على كبرى صحف العالم لتُنشر على صدر صفحاتها الأولى.
ليلة القدر” المشروع الذى بدأ في 15 فبراير 1954 بمقال نشره مصطفى أمين في أخبار اليوم.. فكرة عيد الأم وعيد الأب وعيد الحب.. النشاطات الخيرية والاجتماعية التى لا نزال ممتنين لها جميعاً.
جائزة مصطفى وعلى أمين الصحفية.. التى أنطلقت لتشمل الصحفيين والمصورين ورسامي الكاريكاتير وسكرتارية التحرير الفنية والفنانون.
عبد الحليم حافظ الذى ناصر مصطفى أمين أثناء فترة اعتقاله مؤكداً دائماً على براءته.. وبذل الكثير من الجهد من أجل الحصول على تصريح لزيارته في السجن، وأم كلثوم التي وقفت بجوار أخبار اليوم في عثراتها المالية.. وفى عام 1972 قامت بزيارة إلى السيدة جيهان السادات مع ابنتيه رتيبة وصفية أملاً في التوسط من أجل الإفراج عن والداهما الذى لم تستطع قسوة ومعاناة السجن أن تنال من معنوياته حتى مع رفض إدارة السجن مده بالأدوية أو نقله إلى المستشفى للعلاج.. فكتب إلى ابنته صفية “إن حالته المعنوية عالية وأنه كلما توالت عليه الضربات يكون في أحسن حالاته، وأن الأزمات والمحن تجدد شبابه“.
مصطفى أمين ترك أرثاً من المؤلفات القيمة والتى تحول بعضها إلى دراما فأشتهرت جماهيرياً (الآنسة كاف – صاحب الجلالة الحب – لا)
ورغم إنطلاقة البداية الواحدة .. الميلاد فى 21 فبراير 1914 تأتى النهاية متباعدة.. يرحل على أمين فى 28 مارس 1976 بإنتظار توأمه مصطفى أمين والذى لحق به في 13 إبريل 1997
محمد حسنين هيكل:
كان لوتر السياسة الغلبة فى مثلثه.. الكاتب والمحلل السياسي والذى وُلد فى العام 1923 وامتهن الصحافة منذ عهد الملك فاروق فى العام 1942وحتى عام 2003م.. حيث اعتزل الكتابة المنتظمة والعمل الصحافي بعد أن أتم عامه الثمانين.. وكان وقتها يكتب بانتظام في مجلة “وجهات نظر” ويشرف على تحريرها.. ثم عرض تجربة حياته في برنامج أسبوعي بعنوان (مع هيكل) في قناة الجزيرة الفضائية.
الايجيبشيان جازيت الجريدة التى بدأ منها مشواره الصحفى.. ثم التحق بمجلة آخر ساعة عام 1945.. مما منحه فرصة تغطية بعض المعارك التي خلفتها الحرب العالمية الثانية ولكن برؤية مصرية.. أخبار اليوم التى عمل بها كمراسل متجول حتى تولى رئاسة تحريرها فى عام 1951.
الاهرام تولى رئاسة تحريرها بداية من عام 1957 فأصبحت من أكبر وأشهر عشر صحف في العالم حتى أُطلق عليها “صحيفة نيويورك تايمز في العالم العربي“.. والتى أنتهت فى عام 1974 وعلى إثر خلاف مع الرئيس السادات حول النتائج السياسية من وراء حرب أكتوبر.. حيث صدر قراراً نُشر في كل الصحف صباح يوم السبت 2 فبراير بأن ينتقل هيكل من صحيفة الأهرام إلى قصر عابدين مستشارا لرئيس الجمهورية، واعتذر هيكل ثم خرج من الأهرام لآخر مرة فى ذات اليوم مجيباً على سؤال لوكالات الأنباء العالمية : “إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي.. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي… وفقط “!.
انتوني ناتنج وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارة أنتوني إيدن وضمن برنامج عن هيكل أخرجته هيئة الإذاعة البريطانية ووضعته على موجاتها يوم 14 ديسمبر 1978 في سلسلة “صور شخصية” يقول: عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه.. وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه.
بصراحة العمود الأسبوعي بالأهرام والذى استمر يكتبه هيكل حتى عام 1994 ..كما وأنشأ مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ومركز الدراسات الصحفية ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر.
في قناة الجزيرة قدم هيكل سلسلة من البرامج التى تؤرخ للصراع العربي الإسرائيلي.. كما نشرت مقالاته صحف الصنداي تايمز والتايمز ببريطانيا.. وفي مجال النشر الدولي قدم أحد عشر كتاباً تم ترجمتها إلى ما بين 25- 30 لغة.. من أبرزها (خريف الغضب).. وعن مؤلفاته العربية فمنها (سقوط نظام – الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق – اتفاق غزة – أقباط مصر).
أحداث الخامس والعشرون من يناير شهدت عودة هيكل إلى عموده الأسبوعي بجريدة الأهرام (بصراحة) ليحلل الأحداث الواقعة بعد الإطاحة بالرئيس مبارك .
التاريخ بنظر هيكل مقدس فيقول (أننا نتعلم لغة شعب من الشعوب لكى نستطيع أن نتكلم معه.. ولكن علينا أن نتعلم تاريخه إذا كنا نريد أن نفهمه).. ويقول أيضاً (الإهتمام بالسياسة فكراً وعملاً يقتضى قراءة التاريخ أولاً، لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً طول عمرهم.
الأهرام جعلها هيكل همزة الوصل ما بين أهل الفن وعبد الناصر.. فجمعت نجيب محفوظ.. توفيق الحكيم.. يوسف إدريس ومحمود درويش عندما غادر فلسطين واستقر فترة في القاهرة حين كان رئيس تحريرها، الضباط الأحرار الحركة التى عُين هيكل المتحدث الرسمي باسمها.. علاقته الوطيدة بعبد الناصر وطرائف لقاءات الكتاب به كما يرويها.. ارتباك صلاح عبد الصبور وطه حسين والذى لم تنل منه هيبته لفقدانه البصر، وعلى حسابات تتوافق وسياسة عبد الناصر قامت صداقته بأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.
وانتهى مشوار هيكل في عام 2016 تاركاً كتب ومقالات وبرامج.. وأيضاً أعمال سينمائية وتلفزيونية جسدت شخصيته ودوره المؤثر فى مختلف الفترات الزمنية.