كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم، و من السابقين إلى الإسلام.فهو أول الدعاة ، وسيد التقاة، الذي ترك الدنيا بمتاعها من أجل الآخرة و نعيمها، الذي رضي بالجوع بعد الشبع، واطمأن للفقر بعد الغنى، واستبشر و اطمأن بالعذاب بعد النعيم. أنه غرة فتيان قريش ، وأوفاهم شبابا و بهاء و نضرة و جمالا،إنه لولؤة ندواتها و زهرة شبابها ،وأعطر رجالها . أنه الفتى الريان المدلل ،المترف المنعم ،الذي نال من تدليل وحب والديه ما لم ينله شاب آخر في مكة كلها. فقد عاش في بيت غنيٍّ ثريٍّ من بيوت مكة – شرَّفها الله- فاكتنفته النعمة من كل ناحية.
وعندما سمع بالإسلام دخل فيه ،فتغير حاله من النعيم و الترف إلى التعب والمعاناة ، ولقيَ الكثير من العنت من أهله و خاصة أمه، وتبدلت به الأحوال و أصبح يعيش في شظف العيش. لكن لم يستسلم لأن الإيمان خالط قلبه،فأصبح مصعب بعد الإسلام حامل لواء الجهاد، وأول سفير في الإسلام ،وأول الدعاة إلى الله. جاهد في الله حق جهاده. حقق مهمته بنجاح فلم يعد هناك بيت في المدينة إلا دخل في الإسلام بفضل الله و دعوة مصعب إلى دين الإسلام. استطاع بفطنته و إيمانه و عزيمته أن يخوض التجربة الصعبة فدخلت كل بيوت المدينة في الإسلام. وكان اختيار رسول الله له ليكون سفير الإسلام الأول بفضل حنكته و ذكائه و تفقهه في الدين ، وهو ماجعل منه داعية الحق و حامل لواء الدعوة الإسلامية. بذل كل غال و نفيس في سبيل نصرة الدين، وحتى ترفرف راية الإسلام خفاقة في العالمين. حتى أتاه اليقين فمات شهيدا في غزوة أحد هو يحمل الراية .
أولا صفاته و أخلاقه كانت روحه مشربة بسمو العقيدة ،مما جعله انسانا يملأ الأعين إجلالا ،والأنفس روعة و حياء.كما أنه كان مثالا للصدق في علو الهمة ،وصدق النية و مضاء العزيمة، وقوة الإرادة .كان رقيق البشرة ،حسن الشعر،جميل الوجه . ولد لأبوين غنيين ثريين كانا يُفْرطان في تدليله و الإغداق عليه حتى صار مثلا يضرب في النعيم و الترف. يتحدث الجميع عنه في أريج المسك و ناعم المسكن و فاخر الثياب و لذيذ المطعم و الشراب. وكان يلبس أفخر و أفخم الثياب.ومن هنا قال رسول الله: ” ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة ولا ارق حِلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير .
ثانيا إسلامه سمع مصعب بدعوة رسول الله ، وأنه يجتمع مع أصحابه في دار الأرقم أبن أبي الأرقم ،فذهب إليه و جلس مع رسول الله و سمع منه فشرح الله صدره الى الإسلام، وكان من السابقين إلى الدين الخاتم .وكتم إسلامه خوفا من بطش أمه و عشيرته و لكن رآه عثمان بن أبي طلحة أحد أبناء عشيرته ،وأخبر أمه فكادت أن تجن و كاد عقلها أن يطيش ،كيف يترك مصعب دينها و دين آبائها ليذهب إلى هؤلاء الفقراء المضطهدين ،أقسمت لئن لم يترك هذا الدين لتقف تحت حر الشمس الحارقة ولا تستظل و لا تأكل و لا تشرب و لا تمشط. وقد كان أبر الناس بها ،وكانت هي من أحب الناس إليه، ووقفت تحت لهيب الشمس حتى غُشي عليها مرات و يحملونها إلى البيت،ولكن الفتى هو الفتي لا يتغير لا يتراجع، فلما رأت ثباته أدركت أن سياسة الترغيب و الاستعطاف لن تجدي ،فأمرت بحبسه في ركن من أركان البيت ،وحرمته من كل ما كانت تعطيه ،ومنعت عنه كل ما يحتاج إليه ،وحرمته من كل النعم التي أغدقتها عليه ،وعذبته اشد أنواع العذاب حتى تغير لونه و ذهب لحمه و أنهك جسده.
ثالثا: داعية بدرجة سفير: لكن العجب أنه رغم كل ما لقيه هذا الفتى المدلل من قسوة و تغيُر حال بعد إسلامه فإن ذلك لم يمنعه من التفقه في الدين و التعلم و الفهم ،حتى أن رسول الله أرسله مع طلائع النصر إلى المدينة يعلم أهلها و يدعوهم إلى دعوة التوحيد و يُقرئهم القران،فقد كان صوته عذبا في قراءة القرآن حتى لقبه أهل المدينة بالمقرئ. وفي المدينة نزل على أسعد بن زرارة و أخذ يدعو أهل المدينة إلى التوحيد و عبادة الله و حده لا شريك له بالحكمة و الموعظة الحسنة وجعل يتنقل من دار إلى دار ،ومن ندوة إلى ندوة يقرأ القرآن، ويدعو إلى دين الرحمن،ولا يكاد يمر يوما إلا ويُسْلم رجل أو رجلان،حتى لم يبق في المدينة بيت إلا دخل منه أحد في الإسلام. وقد أسلم على يديه في يوم واحد سيدان من سادات المدينة هما(سعد بن معاذ و أسيد بن حضير) جاءا إليه ليطرداه و يمنعاه من الكلام ،فقال: إن شئتما أن تجلسا و تسمعا ما نقول فإن أعجبكما ما نقول قبلتماه ،وإن لم يعجبكما انصرفا عنا، فقالا أنصفت ،وجلسا فما أن بدأ مصعب بالكلام حتى بدأ الإيمان يظهر على وجههما فأسلما و أسلم معهما الكثيرون من عشيرتهم.( ) وكان هذا فتحا مبينا أن تُسْلم بيوت المدينة بفضل الله، وجهود داعية سخّره الله لخدمة الدين،واختاره رسول الله و هو أعلم الناس بصحابته، ويعرف ما يميز مصعباً من صفات تؤهله لنجاح مهمته. وهي أنه يملك الإيمان الثابت و العقيدة القوية ، والعزيمة الراسخة،وفهمه لأمور دينه.ولهذا استحق بجدارة أن يكون أول سفير للإسلام حمل مشعل النور و الحق إلى أهل المدينة، وجعل راية الدين عالية في آفاق السماء.
رابعا جهاده والشهادة : بعد أداء مهمته كداعية إلى الله على أكمل وجه ،وجهاده مع رسول الله في غزوتي بدر و أحد ،وفي غزوة أحد كان يحمل راية الإسلام فتقدم إليه ابن القميئة وضرب يده اليمنى، فنقل مصعب الراية إلى اليد اليسرى فضربه ابن القميئة عليها فامسكها بعضده حتى قتل. وقد أبلى بلاءً حسنا في المعركة و مات شهيدا و هو في عمر الأربعين من عمره.مات في سبيل الله ولم يُخلف مصعبُ رضي الله عنه و أرضاه وراءه من الدنيا شيئا ،وما وجدوا معه إلا ثوبا مرقعا لم يكف لتكفينه لأنه انشغل عن حب المال و الدنيا بالعبادة و العمل للآخرة.
صفوة القول: أن مصعباً كان من الشباب الذين يُحتذي بهم ،قدوة لكل شبابنا تحمل المسؤولية صغيرا، جاهد في الله حق جهاده، بلَّغ تعاليم الإسلام، ضحي بالترف و النعمة و الغنى و الحياة السهلة، ولاقى في سبيل دين الله العنت و القسوة و الشدة،فلم يبال بما يحدث له، رفع راية الإسلام في الدعوة و الجهاد حتى أتاه اليقين. ان مصعب و أمثاله من جيل الصحابة يستحقون أن تحفر أسماؤهم في سجل التاريخ و تكتب بأحرف من نور و مداد من ذهب،لأنهم بحق قدوة حسنة. و لعل كل من دخل من أهل المدينة في الإسلام هو في ميزان حسنات مصعب بن عمير يوم القيامة – وما أعظمه من أجر-. لأنه مستمر حتى الآن في أبناء الإسلام. و ما هذا إلا بسبب الإخلاص في العمل و القيام بأعباء الدعوة.