مقدمة:
لويس ماسنيون أحد أهم المستشرقين والباحثين في التاريخ والفكر الإسلامي عامة. ولقد ألف عشرات الكتب في الفكر الإسلامي عامة والتصوف بصفة خاصة. حتى أنه يطلق عليه سلطان العاشقين. وهذا الولع بالتصوف الإسلامي، وخاصة بالحلاج المتصوف المشهور؛ جعل ماسنيون يمثل مرجعا هامًا في هذا الجانب، وتلك الشخصية. وفي السيرة الذاتية التي وضعها عنه الكاتبان الفرنسيان: كريستيان وتيريمو وجان مونسولون.. ونالا عنها جائزة الأكاديمية الفرنسية الرفيعة لأدب السيرة، وقد أعيد طبعها بعد نفادها بسبب الإقبال الكبير عليها.. قالا فيها “سوف يتعرف القراء، إلى من يعتبر من كبار المستشرقين المتخصصين بالإسلام والوطن العربي، وشخصية كان لها كبير التأثير في السياسة الفرنسية الخارجية في حينه، شخصية ذات ثقافة واسعة والتزام جاد بالقضايا المحقة والعادلة، ومن بينها القضية الفلسطينية، واستقلال الجزائر والمغرب وسوريا”.. إنه لويس ماسنيون تلك الشخصية المركَّبة المعقدة الولوعة، فقد كان شغوفا بالإسلام إلى حد كبير، وكاثوليكيا تقيا ومتحمسا في الآن نفسه.
لقد رأى ماسنيون في التصوف الإسلامي، مناجاة إلهية موجودة في كل الملل والنحل والأديان.. ويقول في هذا السياق “جذبني الشرق إليه بماضيه الحافل بالديانات، فإذا بي أغرق فيه إلى قمة راسي، وإذا بفلاسفة الإسلام ومتصوفيه يحظون جميعا بالقسط الأكبر من تفكيري، وإذا بي –بعد دراستي إياهم– أنجذب نحو المنبع الأول الذي استسقى منه هؤلاء الفلاسفة تصوفهم وفلسفتهم”.
ورغم اعترافه الشخصي بمعضلته.. مثقفا استخدمته واستغلته السلطة الاستعمارية؛ فقد بقيت تجربته وأفكاره تخاطبنا إلى اليوم، خاصة فيما يتعلق منها بتجربته الروحية واكتشافه التصوف والإسلام، وكتاباته عن الأرض المقدسة، حيث استشرف المستقبل فيما يتعلق بالصراع الحضاري بين الشرق والغرب كما سوف نرى؛ حيث وصف أوضاعا ستؤدي إلى صراع لا ينتهي، بسبب ظلم يتجسد في الأشخاص المهجَّرين من أرضهم، فبرأيه أن تحويل الحلم الصهيوني إلى دولة وطرد العرب وتناسي مهمة الإسلام الأخروية، أي المرتبطة بالآخرة – يسهم في إطالة النزاعات التي ستسبب حربا عالمية كان يخشى وقوعها.
نبوءة ماسنيون و صدام الحضارات:
لقد اضطلع ماسنيون بدور مؤثر وهام، في الفترة التي شهدت الإعداد للحرب العالمية الأولى، وتقاسم المنتصرين إرث الإمبراطوريات المنهارة، ونشوء حركات التحرر من الاستعمار، ما جعله عرضة لآراء متضاربة وتشكيك بنزاهة بعض مواقفه، التي كانت مثارَ جدلٍ كما يقول إدوارد سعيد، ولقد لعب الرجل دورا هاما في تلك الفترة، وأصبح وكيل استشراف لدى وزارة الخارجية الفرنسية، وانضم إلى جيش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، كما عُيِّنَ سكرتيرا لجورج بيكو (أحد مهندسي اتفاقية سايكس بيكو). وفي النهاية اعترف ماسنيون بعدم إيفاء الحلفاء بالعهود التي قطعوها للعرب، مستخلصا إن الغرب هو الذي أوصل الشرق إلى الفراغ الكبير والفوضى . ومع ذلك فأن أهمية الرجل لم تتراجع منذ وفاته في عام 1962، خاصة فيما يتعلق بنظرته إلى الغرب وعلاقته مع الشرق، وما توقعه في رؤية أشبه بالنبوءة؛ إن هناك تصادم وصدام حضاري سيقع بين الغرب والشرق، وذلك بناء على معطيات واقعية استنتج منها ماسنيون حدوث هذا الصدام، وهو ما وقع بعد ذلك بالفعل. ولقد بني ماسنيون موقفه تجاه الإسلام والفكر الإسلامي من فكرة الاتصال والارتباط الديني بين المسيحيين والمسلمين في العيش المشترك. ومن هنا كان ماسنيون أفضل ريادي في البحث عن التقريب بين الشرق والغرب، والتقريب بين مصالح الأوروبيين والمسلمين. ومن هنا فقد تنبأ مبكرا بحدوث صدام حضاري بين الغرب والشرق، ورأي أن السبب الرئيسي في هذا الصدام يعود إلى الغرب وخاصة في ظل الرغبة في الهيمنة والسيطرة في إطار العولمة التي تأتي على الأخضر واليابس. ورغبة الغرب في إزالة الحواجز وكسر الهويات، ومن هنا سيحدث صدام لا محالة بين الشرق والغرب.. فالشرق يريد أن يحافظ على هويته، والغرب يريد إذابة العالم في هوية واحدة. ومن هنا رأى ماسنيون أن مستقبل المسلمين يتعلق بمدى وفائهم للتقليد الإبراهيمي –نسبة إلى سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء– وبمدى قدرتهم على إعادة بناء عالمهم الروحي الأصيل وتحديد ثقافتهم الحقيقية. ومن هنا أشار ماسنيون إلى أن الاوروبين أو الغرب يتحملون مسئولية تحطيم العالم الإسلامي وثقافته الأصيلة المتميزة؛ وقد كان من الواجب عليهم إن يتواصلوا مع الإسلام ويسهموا في انبعاثه بالمشاركة والتعاطف العملي، والعمل على بعث تلك القيم الروحية الموجودة في الذات الإسلامية.
صفوة القول:
كان ماسنيون مفكرا قرأ الواقع مبكرا، من خلال شواهد عملية وسبق عصره بالتنبؤ بالصدام الحضاري بين الشرق والغرب، وحمل الغرب مسئولية هذا الصدام، من خلال رغبة الغرب السيطرة على الشرق، وعدم احترام خصوصية الشرق.
من هنا كان الصدام واقعا لا محالة، في ظل هذه الأجواء المشحونة بين الغرب والشرق والتي يتحمل الغرب النصيب الأكبر منها كما يرى ماسنيون.
بطاقة تعريف
ولد ماسنيون في لورجان سور مارن في باريس في 25يوليه عام 1883، لأب نحات وأم ورعة تقية. درس الأدب والفلسفة وحصل على الإجازة عام 1902، ثم تقدم ببحث عن بلاد المغرب بعد زيارة لها، ونال دبلوم الدراسات العليا عام 1904، تابع دراسته للحصول على دبلوم اللغة العربية الفصحى والعامية من المدرسة الوطنية للغات الشرقية. اهتم بالآثار الإسلامية والتحق بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة عام 1907، واستمع إلى دروس في الأزهر بالزي الأزهري، وانتدبته الجامعة المصرية أستاذا لتاريخ الفلسفة بين عامي (1912-1913) وألقى بالعربية نحو أربعين محاضرة حول التكوين التاريخي للمصطلحات الفلسفية، وكان طه حسين أحد تلاميذه.
أثناء مشاركته في بعثة أثرية في بغداد بحثا عن قصر”الأخيضر” جنوبي بغداد عام 1908، أَسَرَتْهُ السلطات العثمانية للاشتباه بكونه جاسوسا، وأرسلته إلى بغداد للمحاكمة، وهناك حُكِمَ عليه بالإعدام، ولولا تدخل أسرة “الألوسي” لنفذ الحكم.. بعد إنقاذه رُحِّلَ إلى باريس.
هذه الحادثة أشعرته أنه في حضور روحي؛ هزه بقوة وبعمق وحوَّله من إنسان ينقصه الإيمان العميق.. إلى مؤمن كبير، لقد اعتبر هذه اللحظة قدرية وسمَّاها زيارة البعيد غير المرئي، الذي يسمو بكل الأشياء فيعلم الأنبياء ويوحي إليهم بتلك اللغات التي يعبرون بها عن تجاربهم الروحية في الإسلام والمسيحية وأديان أخرى.
تقلد ماسنيون العديد من المناصب منها مستشار في وزارة المستعمرات الفرنسية لشئون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وحَاضَرَ في الكوليج دي فرانس، حيث كانت محاضراته تجذب جمهورا كبيرا ومتنوعا من الطلاب.
تولى الإشراف على إدارة الدراسات في مركز الدراسات العليا، ورئاسة لجنة شهادات تعليم العربية، كما أنه اضطلع بمهام سياسية؛ فكان ضابط استخبارات ودبلوماسي ومفاوض معاهدات ومستشار وزراء وجنرالات ومحاورا لكبار السياسيين.. كل هذا جعله شاهدا على التحولات التي حدثت في الوطن العربي والإسلامي، ومشخصا لصدام الحضارات بحسب تسميته، ومحددا أنواع الترياق الذي يمكن للأمم الغربية والشرقية اعتمادها تفاديا لنتائجه الهادمة.
