هناك حيث يبدأ النيل رحلته على الأرض المصرية منحدرا نحو الشمال، محمّلا بآمال البسطاء وآلامهم، في قرية نائية كأنما اعتزلت العالم كله ليس عن اختيار، بل بفعل النبذ والإهمال، يولد حامد عمَّار؛ ليفتحَ عينيه على واقع تتكامل فيه تفاصيل البؤس والعِوَزِ والنسيان، مع صمود إعجازي للبشر يتجلَّى في التحايل على أسباب الحياة ومداراة المعاناة؛ لِتمضي الأيام كفافا يُجمِّلها الستر، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
تلك البدايات الأليمة
قرية “سُلْوَا” مركز “إدفو” مطلع عشرينات القرن الماضي، قرية هادئة تنام على كتف النيل، لكنها غير هانئة؛ إذ ينتشر الفقر في تفاصيل حياة أهلها كأنما هو الهواء الذي يتنفسونه في كل وقت وحين .. أما العلم فهو محدود ويعتمد على “المشافهة” ولا طاقة لمعظم الأسر بتعليم أطفالها؛ فيصرفونهم إلى العمل والكد نظير أجر زهيد.
من كتّاب القرية ينطلق الصبي إلى المدرسة الابتدائية في “إدفو” حيث يرى صنابير الماء النقي لأول مرة في حياته؛ فيعجب أشد العجب، وهناك أيضا يلتقي معلمه جلال أفندي الأمير الذي سيتعهده بالرعاية، ويشدد على الأب بضرورة استكمال ابنه لتعليمه ليصير يوما “أفنديا” لا تُطاوِل قامته قامة أخرى في “سُلْوَا” البائسة.
يتأمل الصبي “إدفو” فيراها مدينة تزدحم بالناس، يعاني فيها معاناة الغريب المحروم، وهي معاناة تضاف إلى معاناة الأب المسكين الذي يكد ويشقى حتى يوفر مصروفات تلك المدرسة، وهي ثلاثة جنيهات يحمِّلُ دفعها الأسرة أعباء شديدة.
“إدفو” جافة ومقيتة، ليس فيها ما في قريته من المودة البادية في تعاملات الناس على رقة حالهم، تمثل له “سُلْوَا” قطعة من روحه سيظل يحنو عليها ويحن إليها طوال حياته، مهما تباعدت به السبل، تهيج لها مواجده، وتجيش بذكرها مشاعره، وكيف ينسى لها أنها ظلت ساهرة لثلاث ليال تحتفل بصخب وقت أن نال شهادة البكالوريا؟.
بين باريس ولندن
تجرى بالفتى سفينة الحياة، وها هو يجد نفسه على مقاعد الدراسة في كلية الآداب، يتأمل في حيرة مشاهد حياته الجديدة، وكأنه في حلم جميل، لا يعكر متعته سوى تلك المصاريف الكبيرة التي يتحمَّل الأب المسكين أمر تدبيرها، يعذبه كذلك تواضعُ هيئته مع نحافته البادية وقصر قامته، ما جعله ينكب على دراسته؛ علّ تفوقه الدراسي يعصمه من الزراية التي يشعر بها في نظرات الزملاء – وغالبيتهم من أبناء الطبقة المترفة –
يحصل حامد عمار على الليسانس بتفوق، ثم يلتحق بمعهد التربية بالأورمان حتى يستقر به الحال مدرسا للتاريخ والجغرافيا، بمدرسة قنا الابتدائية.
https://www.youtube.com/watch?v=PyOMrmP2KwI
ثم تسوق له الأقدار فرصة السفر إلي “باريس” عضوا في البعثة المصرية الموفدة إلى هيئة “اليونسكو” وعند عودته يُلحق بالعمل في المركز الدولي للتربية الأساسية في قرية “سرس الليان” في المنوفية وهو عمل امتد ستة عشر عاما علي سبيل الانتداب.
وإلى جامعة “لندن” يشد “عمّار” الرحال للحصول على درجة الماجستير في فلسفة التربية.. تجربته الأليمة ماتزال نُصب عينيه، وواقع الفقر والحرمان في قريته، بل وفي صعيد مصر كله- يسيطر على تفكيره؛ فيكون موضوع أطروحته للماجستير “بحث في عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر”، ثم يستكمل في الدكتوراه تركيزه على قضايا مجتمعه، فتكون أطروحته بعنوان “التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية – سُلْوا- مديرية أسوان”، وهي الرسالة الأولى لباحث مصري في مجال اجتماعيات التربية التي تنشرها إحدى أهم دور النشر الأمريكية، ثم تتولى طباعتها لنحو خمسة عقود لعدم توقف الطلب عليها خلال تلك الفترة.
خمس سنوات قضاها “عمّار” في لندن تعرّف خلالها على العديد من الطلاب العرب، وتواصل معهم محاولا تبصر مشكلات المجتمعات العربية، ما أسهم بشكل كبير في تبلور فكره القومي الذي ظل محافظا عليه في كل كتاباته المتعلقة بالتنمية البشرية العربية، وبناء الإنسان العربي، وتحديات المجتمع العربي في عصر العولمة، وغيرها من الكتابات التي تشكل ركنا غاية في الأهمية في المكتبة التربوية العربية.
مثلث بناء البشر
يذكر الدكتور “عمّار” أنّه عندما التحق بعد ذلك بالعمل في كلية التربية، وكانت آنذاك في حي المنيرة لم يكن ثمة مصري سواه، إذ كانت هيئة التدريس بالكامل من الأجانب، ما أثار عجبه ودفعه للتساؤل عن كيف يُصنع المعلم المصري بأيد أجنبية؟!.
كان الدكتور عمار يرى أنَّ التعليم والثقافة والإعلام هي العوامل الأساسية التي تشكل مثلث بناء البشر، كما كان من أشد المؤيدين لمجانية التعليم، فهو لا ينسى اضطراره إلي تقديم شهادة فقر كل عام مع شهادة التفوق الدراسي للحصول علي مجانية التعليم، ومدي ما كان يشعر به من ذل ومهانة، كما كان يؤكد على أن فكرة السلم التعليمي هي فكرة تقليدية تقوم على الفرز والاستبعاد، وأن مفهوم الشجرة التعليمية التي تتفرع وتمتد وتستمر طوال حياة الإنسان هي الأجدى والأنفع.
لقد ترك الدكتور عمار إرثا تربويا عظيما يكشف عن نزعة إنسانية كبيرة، كما أن منطلقاته القومية وتصديه بالحل للمشكلات المجتمعية العربية أمر لا تخطئه عين، ولقد كان شيخ التربويين العرب طوال حياته المديدة الأحرص على استشراف المستقبل و طرح رؤى جديدة تسهم في عودة الروح للأمة بأسرها.
يقول العالم الجليل عن رحلته : “إنّ مسيرتي رحلة طويلة مذهلة من مجتمع الزراعة البدائي واقتصاد الكفاف، والاكتفاء بموارده الذاتية، إنتاجا واستهلاكا، إلى مرحلة آفاق مجتمع العولمة وعصر المعلوماتية والسوق العالمية، وثورات الهندسة الوراثية والسماوات المفتوحة برسائلها الفضائية”. رحم الله د. حامد عمّار وغفر له.