رحم الله المستشار والمفكر والفقيه القانوني الاستاذ طارق البشري رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه .
اتفق او اختلف مع الاستاذ البشري كما تشاء فهو حقك وقد مارس الاستاذ البشري بنفسه هذا الحق بكل وضوح مع زعماء ومفكري وعهود مصر المختلفة انتقادا او دعما .. ولكن اياك وان تقلل ابدا من قيمته الفكرية ولا من اسهامه الجوهري في النقاش العام في مصر و العالم العربي بشان القضايا الفكرية الرئيسية من الاسلام والعروبة الي الديمقراطية والوحدة الوطنية وحتي الصراع الاجتماعي وعلاقة القانون بالسياسة والمجتمع .
قال الاستاذ هيكل لي مرة قبل ثورة ٢٥يناير ٢٠١١ وهو الذي كان يزن احكامه علي الناس بميزان من ذهب ( ان البشري ربما كان اهم فقيه قانوني تحصل عليه مصر منذ السنهوري ).
كان الاستاذ البشري عارفا بقيمة نفسه وجدة وجدية منجزه الفكري وربما جعله ذلك صعب المراس عند الاختلاف في الرأي اقرب الي التشبث برأيه وعدم التسامح مع النقد الموجه له .
وقد تبدي ذلك البعد في شخصيته متعددة الجوانب اكثر ما تبدي بعد ثورة ٢٥ يناير وما خلقته من استقطابات كبري ومواقف غير متوقعة فاجأت وأربكت جميع الاطراف مهما بلغت حكمتهم وحنكتهم ومنهم المستشار البشري .
قبل ثورة ٢٥ يناير وبالتحديد منذ عام ٢٠٠٤ كان الاجماع الوطني علي فساد عهد مبارك شبه تام وكان البشري -بدون أي مبالغة -احد اهم الرموز المجمع عليها وطنيا في هذه المرحلة .
ومن ثم كان طبيعيا ان تتعلق به العقول والقلوب عندما استقر راي المجلس العسكري الحاكم وقتها علي ان يتراس لجنة تعديل الدستور واتذكر انني قابلته في عزاء لأخت الاستاذ هيكل في نفس الفترة وذكرته بموقفه السابق الرافض لتعديل دستور ٧١ المهتريء والذي عبر عنه صراحة وبشجاعة علي صفحات جريدة (العربي) الناصري قبلها بسنوات ومطالبته -ومبارك مازال في الحكم – بدستور جديد ديمقراطي ينهي تغول السلطة التنفيذية وحكم الفرد .
ولكن الامور سارت للأسف وكما يعرف الجميع نحو تعديل دستوري محدود واستفتاء مارس الشهير ٢٠١١ (الذي اشتهر باستفتاء غزوة الصناديق وكان في نظر كثيرين بداية فشل الثورة وضياع حلمها الكبير .
لا أحمل الاستاذ البشري وحده هذه المسؤولية كاملة فقد كانت تلك النتيجة في النهاية انعكاسًا صارما لموازين القوة وبالتحديد لما اتفقت عليه ارادة الاطراف (المنظمة) ذات النمط الهيراركي شديد الصرامة والانضباط التي سيطرت علي المشهد انذاك وهما المجلس الاعلي والاخوان المسلمين في ظل تعدد وتباين اتجاهات معسكر الثورة المدني.
من محبتي للرجل الكبير من ناحية وممارسة لدوري المهني في طرح شواغل الراي العام -دون حرج من هذه المحبة – من ناحية اخري اردت وانا اقدم برنامجًا علي قناة النهار في اوج الثورة ان امنحه الفرصة للرد علي قضية تعديل الدستور التي اعتبرها البعض خدمة مهدت الطريق امام اكتساح الاخوان ( وهو تقليد مهني مستقر في الصحافة الغربية تشكرك كل شخصية عامة علي اتاحتك الفرصة لها لكي ترد علي ما يوجه لها من اتهامات ) لكنه بدلا من ذلك غضب وقتها غضبا شديدا وانفعل انفعالا غير مسبوق في برنامج مباشر علي الهواء .
من بعدها لم نتكلم انا والاستاذ طارق البشري ولكن وقعت ثلاثة حوادث مرتبطة بهذه الواقعة :
الحادثة الأولى: اتصل بي عالم الاقتصاد الراحل المفكر الدكتور جلال امين في اليوم التالي للواقعة وقال (يبدو انك لا تعرف (طارق) جيدا وبعد ان اثني ثناءا واسعا علي مناقبه وقدراته الفكرية والقانونية قال: فقط تجنب نقده او الاختلاف معه فهو شديد الحساسية للنقد وشديد الاعتزاز بنفسه وبرأيه.
الحادثة الثانية: هي سلسلة من المقالات والتعليقات في البرامج التلفزيونية وبوستات السوشيال ميديا من عناصر متعصبة من الاخوان تهاجمني لمدة زادت عن شهر كامل لتجرؤي علي سؤال او احراج المستشار البشري وكأنه محصن من النقد او فوق المساءلة وكانت هذه الرسائل تسعي لاستفزازي ان اعلق بتعليق سلبي علي واقعة انفعال الاستاذ البشري او ان احولها من مسالة (مهنية) الي مسالة (شخصية) وقد رفضت تماما ان استجيب لهذا الاستفزاز او الوقوع في هذه المصيدة الخبيثة ولن تجد لي تعليقا واحدا علي القصة او علي مقطع الفيديو الذي كان اشبه ب (( ترندات)) هذه الايام .
الحادثة الثالثة: بعد الواقعة بفترة معقولة كنت جالسا في المقاهي وتقدمت مني سيدة فاضلة – ولا أرقي منها حديثًا وأسلوبًا – وقالت انها من اسرة المستشار البشري وعبرت عن حزنها وحزن الاسرة كلها علي هذا الموقف الذي حدث في البرنامج بما فيهم الاستاذ البشري نفسه اذ كانوا جميعا يعرفون ما اكنه له من احترام واجلال وما يكنه لي من تقدير واتذكر انني قلت لها انه ليس في نفسي شيء وان احترامي له ومعرفتي بقدره لم تتزحزح قيد انملة.
وان ((الزبد يذهب جفاءا .. وما ينفع الناس يمكث في الارض )).
رحم الله المستشار الاستاذ طارق البشري المفكر والباحث الكبير في شوون القانون والتاريخ والسياسة والشريعة ابن اسرة العلم والادب العريقة . وانزل اللهم الصبر والسكينة علي شريكة عمره الكاتبة الكبيرة الاستاذة عايدة العزب موسي وابنيه المحترمين وعلي تلاميذه ومحبيه وعارفي فضله من المختلفين معه والمتفقين .