«ثمة مدن سرعان ما تملها، وثمة مدن تستعصي على المداعبة في البداية، ولكنها إذا فتحت قلبها أسرتك، أما القاهرة، فإنها سريعة الحب، ولكن حبها مقيم ودائم .. أحببت القاهرة كما أحب حيفا، ووجدت أن جمال القاهرة كان مشوبا بالحزن، كأنك تشعر أن في قلبها شيئا مكسورا» .. هكذا عبر شاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش عن رؤيته لمعشوقته القاهرة.
مدينة القاهرة التي اتشحت بالسواد حدادا على وفاة زعيمها الراحل جمال عبد الناصر كانت على موعد صباح يوم 9 فبراير من عام 1971 مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي قيل أنه قدم إلى أرض مصر بدعوة مسبقة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .. تُرى كيف كان رد فعل المثقفين المصريين والعرب على قدوم درويش إلى القاهرة بذلك التوقيت البالغ الحساسية من عمر القضية الفلسطينية؟ وكيف قضى الشاعر فترة إقامته بمصر؟ ولماذا غادرها مسرعا ولم يمكث بها مطولا كما كان متوقعا منه؟ .. تساؤلات عدة تحيط بتلك الفترة التي قضاها درويش بمصر يجيب عليها الكاتب الصحفي سيد محمود في كتابه الشيق «محمود درويش في مصر .. المتن المجهول .. نصوص ووثائق تنشر للمرة الأولى».
الأرض بتتكلم عربي
خاض الكاتب الصحفي سيد محمود ذو الخلفية التاريخية رحلة مثيرة داخل عالم الأرشيف الصحفي لعدد كبير للغاية من المجلات والصحف المصرية والعربية التي صدرت بذلك التوقيت إلى جانب إجراءه للعديد من المحاورات مع مجموعة من الشخصيات التي عاصرت فترة وجود درويش بمصر من بينهم الكاتبة الصحفية صافي ناز كاظم وذلك في محاولة من قبل الكاتب للكشف عن تلك الحالة من الغموض التي احاطت بقدوم محمود درويش إلى مصر موضحا أن درويش قد قدم إلى مصر قبل عدة أيام من توقيت ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقد بمطار القاهرة وشارك فيه وزير الإعلام آنذاك محمد فائق وبثه التليفزيون العربي وإذاعة صوت العرب إلى العالم.
قضى درويش أيامه الأولى بمصر قبل الإعلان الرسمي عن قدومه متجولا بمدينتي الأقصر والأسوان رحب به الجميع ترحيبا شديدا غير أن أكثر ما أثر به كان ترحيب أحد معلمي تلك المدرسة الإبتدائية شديدة التواضع حين أشار إلى تلاميذه فأنشدوا سويا قصيدة درويش: «وطني يعلمني حديدُ سلاسلي .. عنف النسور، ورقة المتفائل .. ما كنت أعرف أن تحت جلودنا .. ميلاد عاصفة وعرس جداول .. سدوا علىَّ النور في زنزانة .. فتوهجت في القلب .. شمس مشاعل .. كتبوا على الجدار .. مرح سنابلِ .. رسموا على الجدار صور قاتلي فمحت ملامحها ظلال جدائل».
يصف محمود درويش دهشته الأولى بمدينة القاهرة: «عندما دخلت القاهرة سحرتني كأي مواطن عربي، فقد رأيت مدينة بكاملها تتكلم العربية، ورأيت أسماء الشوارع باللغة العربية، فمسني مسا عاطفيا، كان بعيدا عن كل الضغوطات الوطنية والشخصية، كان هناك تأهب نفسي للالتقاء بروحي العربية».
درويش .. عاشق من فلسطين
عانى درويش معاناة بالغة الشدة جراء تلك الحملة الشرسة التي خاضها بعض الكتاب والمثقفين من داخل الأرض المحتلة بفلسطين ومن خارجها جاء أشرس نقد من قبل مجلة الحوادث اللبنانية على يد ربيع مطر وتواصل النقد داخل مصر حتى أن فرقة أولاد الأرض التي أسسها الكابتن غزالي استقبلته حين زار مدينة السويس بأنشودتها: «أهلا يا درويش .. كيفك وكيف سميح؟ .. إيش حاله؟ وإيش حال عروبتنا؟ .. وكيف الأهل تعيش؟ .. في القهرة إللي صابتنا .. إحنا ولاد الأرض .. للنصر غنوتنا .. أهلا يا درويش يا بلبل سهرتنا» .. الفرقة التلقائية التي أرادت الترحيب بقدوم درويش لم يفتها أن تنتقد مغادرته لأرض فلسطين حين أشارت لموقف سميح القاسم الذي أختار البقاء داخل الأرض المحتلة بفلسطين على عكس موقفه.
على الجانب أخر حظى درويش برعاية الدولة المصرية وعدد غير قليل من المثقفين المصريين على رأسهم الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل وليس أدل على تلك الرعاية من تنظيم أحمد بهاء الدين لذلك الإحتفال الخاص بعيد ميلاد درويش الثلاثين ببيته حيث دعى لحضور ذلك الحفل نخبة من المع مثقفي القاهرة ومن ثم قدم لهم درويش بوصفه «عاشق من فلسطين».
https://www.youtube.com/watch?v=B8z9xh0bfHg
درويش .. من «صوت العرب» لعالم الصحافة
اتخذ محمد فائق وزير الإعلام آنذاك قرارا بتعيين محمود درويش مستشارا ثقافيا لإذاعة «صوت العرب» غير أن عالم الصحافة الرحب كان الملاذ الأكبر الذي احتمى به درويش حيث بادر بنشر مجموعة من قصائده بمجلة المصور قبل مرور شهر على قدومه للقاهرة تبعها بأول مقال له حمل عنوان: «هل تسمحون لي بالزواج؟» حاول من خلاله تبرير أسباب خروجه من أرض فلسطين واختياره للقاهرة كمقر لإقامته الجديدة.
من «صوت العرب» ومجلة المصور واصل درويش رحلته لمجلة الهلال التي كانت علاقته بها قد سبقت قدومه للقاهرة حين نشرت عدد من قصائده ومن الهلال لصحيفة الأهرام ومركز الدراسات الفلسطينية بالأهرام الذي مثل النواة الأولى لتأسيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية الذي اختص في بداية نشاته بالعمل على دراسات قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
نشر درويش بالأهرام عددا من قصائده إلى جانب عشرات المقالات والتقارير الصحفية والمتابعات والتغطيات التي جمعها سيد محمود وضمنها بكتابه مرجحا أن تلك القصائد التي نشرها درويش بالأهرام قد كتبت جميعها بالقاهرة وصدرت القصائد مصحوبة برسوم اثنين من المبدعين هما: «يوسف فرنسيس ومكرم حنين».
واصل درويش إلى جانب نشر قصائده الكتابة حول القضية الفلسطينية وطبيعة المعاناة التي تعيشها مدينة غزة إلى جانب سلسلة من المقالات تناول فيها مضمون تلك الصورة الذهنية التي حاول الإسرائيليون تصديرها للغرب عن انفسهم إضافة لتلك الدراسة التحليلية التي حملت عنوان «معنى القلق في الأدب الإسرائيلي» والتي بدأها «بأنا وأنت والحرب القادمة».
من الصحيفة اليومية بالأهرام إلى مجلة «الطليعة» اليسارية التي أسسها لطفي الخولي عام 1966 لتصبح منبرا لليسار المصري يظهر اسم محمود درويش ضمن فريق هيئة تحرير ملحق «الفن والأدب» عند صدوره للمرة الأولى عام 1972 جنبا إلى جنب باقة من رموز الثقافة المصرية «لطيفة الزيات وغالي شكري وصبري حافظ وسمير فريد».
التقى درويش خلال فترة إقامته القصيرة بمصر بأبرز رموز الثقافة المصرية والعربية غير أنه بعد أكثر من 35 عاما على مغادرته القاهرة يعرب لعبده وازن عن سوء حظه لأنه لم يلتق بعميد الأدب العربي طه حسين كما لم يلتق بسيدة الغناء العربي أم كلثوم التي وصفها بكونها «متنبي الغناء العربي» كما أنشد فيها نصا حمل عنوان «إدمان الوحيد» بكتابه «أثر الفراشة».
غادر محمود درويش القاهرة منتصف صيف عام 1972 ولعل قصر الفترة التي قضاها درويش بالقاهرة ترجع بالأساس إلى كون مصر التي قدم إليها درويش وفقا لتلك الدعوة المسبقة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي نعاه درويش بقصيدة تعد من أبدع ما كتب في نعيه كانت تختلف عن مصر التي اطلق السادات فيها ثورته المزعومة: «ثورة التصحيح».
مغادرة محمود درويش للقاهرة لم تكن بأي حال من الأحوال تعني إنقطاعه عنها ذلك أنه قد واظب – برعاية محمد حسنين هيكل- على الكتابة الصحفية للأهرام كما لم يفته أن يعاتب محبوبته مصر فكتب قصيدته: «رحلة المتنبي إلى مصر» .. غادر درويش مصر لكنه كثيرا ما أشار إلى القاهرة بوصفها من أهم محطات حياته إلا أن ذلك لم يمنعه من أن ينشد قصيدته .. «ماذا يقول النيل، لو نطقت مياه النيل؟ .. قد زيفوا يا مصر حنجرتي».