« رأيت أحمد عبد العزيز عندما جاء إلى دار أخبار اليوم في زيارة خاطفة ليعود بعدئذ إلى حيث يواجه قدره .. رأيته وأصغيت إليه وهو يتحدث ببساطة عن الحياة والموت .. حديثا لا نستطيع نحن الفانين أن نسبر له غورا أو ندرك له قرارا .. لكأن ذلك الحاجز بين العالمين قد انهدم تماما أمام وطنيته الدافقة وإيمانه العارم .. فهو يتحرك بجهاده في مناطق غريبة .. تجهل لغتها كلمة موت .. مناطق علوية من غير شك لمعنى عظيم استحوذ عليه وجعله من خدامه وفرسانه .. (هذا هو البطل) .. قلتها في نفسي .. وهو إلى جانبي يتكلم بصوته الهادىء النبرات .. من يكون البطل غير الذي استطاع أن يقهر في نفسه فكرة الموت .. ذلك الذي استطاع أن يقول للموت .. لن تنال مني .. فقد تحولت إلى معنى قائم فوق الزمن، يشيع في الناس الحياة .. ويبعث في النفوس عقيدة» .. من كلمات «توفيق الحكيم» بجريدة أخبار اليوم في نعي الشهيد أحمد عبد العزيز قائد قوات الفدائيين المصريين في حرب فلسطين سنة 1948 والذي استوحى الحكيم شخصيته بمسرحيته «ميلاد بطل».
عاصر توفيق الحكيم خلال رحلته الأدبية خمس حروب خاضها الجيش المصري بدءا من حرب فلسطين 1948 وحتى حرب أكتوبر 1973 إلى جانب العديد من التغيرات السياسية التي مر بها المجتمع المصري وعلى رأسها ثورة يوليو 1952 وهى في مجملها أحداث وتغيرات أثرت دون شك على محتوى ومضمون إبداعه .. الناقد المسرحي فؤاد دوارة يواصل رحلته في الإبحار داخل عالم توفيق الحكيم في كتابه «مسرح توفيق .. المسرحيات السياسية» .. في محاولة للوقوف على أهم سمات مسرح توفيق الحكيم السياسي.
الحكيم وشئون السياسة
كتب توفيق الحكيم خلال حياته الفنية ما يزيد عن «ثمانين» مسرحية من بينها «ست وثلاثين» مسرحية سياسية غلب عليها نمط المسرحية ذات الفصل الواحد -خمسة وعشرون مسرحية من الست وثلاثين- وقد أرجع فؤاد دوارة ذلك لإعتياد الحكيم نشر مسرحياته بالصحف ذات المساحة المحدودة بطبيعة الحال وهو ما أثر ليس فقط على حجم المسرحية ولكن على موضوعاتها وأسلوب معالجتها فجاءت أغلب تلك المسرحيات تميل للبعد عن التعقيدات الفنية والرموز الفكرية التي كانت شائعة بغالبية مسرحيات الحكيم الأخرى.
عالج الحكيم شئون السياسة العالمية في خمس عشرة مسرحية هجا فيها الحروب وما تتضمنه من صور وحشية وحذر من آثارها المدمرة على الحضارة الإنسانية ودعا إلى إحلال السلام والتفاهم بين الدول محل التوتر ونادى باستخدام العلم سبيلا لتقدم الإنسانية بدلا من تسخيره لصنع أسلحة الخراب والدمار، كما نبه إلى ضرورة الإهتمام بقضايا الشباب باعتبارهم صناع المستقبل ولفت النظر إلى طبيعة الدور الذي يلعبه بعض رجال السياسة والمال في إفساد وتحطيم المثل العليا التي من المفترض أن يؤمن بها الشباب.
طرح توفيق الحكيم في أربع مسرحيات له نظم الحكم السائدة بالعالم وهاجم الحكم الإستبدادي الفردي وسخر من النظام الملكي ولم تنج الديمقراطية من سهام نقده وقد أرجع دوراة موقف الحكيم ذاك من الديمقراطية لما قد شاهده من عمليات تزوير للإنتخابات خلال فترة عمله كنائب بالأرياف وهو ما تناوله بعمله الأدبي المتميز «يوميات نائب في الأرياف».
انتقد الحكيم في تسع عشرة مسرحية مختلف صور الفساد السياسي وتميزت المسرحيات التي كتبها قبل ثورة 1952 بالمباشرة والواقعية في حين تنكرت مسرحياته فيما بعد الثورة وهزيمة 1967 داخل عالم الأبنية الرمزية والحكايات الشعبية والخرافية واعتمد الحكيم على تقنية «الملهاة» كأسلوب لمعالجة غالبية أعماله المسرحية السياسية.
«براكسا أو مشكلة الحكم»
صدرت مسرحية « براكسا ” أو مشكلة الحكم» عام 1939 عقب تعرض توفيق الحكيم لأزمة سياسية حادة نجمت عن نشر حوار له انتقد فيه الحياة النيابية بمصر ما دفعه للتوجه نحو الكتابة السياسية فكانت تلك المسرحية التي استوحى عالمها من مسرحية «مجلس النساء أو النائبات» للإغريقي «أرستوفانيس» الذي يعد من أكبر هجَّائي عصره وسياسييه.
«خرجت براكسا من منزلها في ساعة مبكرة من الصباح لتوافي صاحباتها في الموعد الذي ضربته لهن أمام بيتها، وهى ترتدي ملابس زوجها وكذلك فعلت صاحباتها اللائي بدأن في الحضور واحدة بعد الأخرى وحين أكتمل عددهن شرعت براكسا في افهامهن تفاصيل الخطة التي وضعتها للاستيلاء على السلطة ثم توجهن معا إلى المجلس .. بعد إنصرافهن خرج من البيت (بلبروس) زوج براكسا مرتديا ملابس زوجته لأنه لم يعثر على ملابسه ويقابله صديقه (كريميس) وقد عاد لتوه من المجلس فيحكي له ما رآه هناك وكيف أن حشدا كبيرا من الرجال الغرباء وصلوا مبكرين واحتلوا المقاعد الأمامية وألقى أحدهم خطبة بليغة طالب فيها بتسليم كل شئون الحكم إلى نساء المدينة، فوافق الحاضرون وسط حماسة ذلك الحشد من الغرباء».
احتفظ الحكيم بنفس البيئة الإغريقية «اليوتوبية» غير أنه في نقده لبعض الأوضاع السياسية قد اكتفى بالتلميح دون التصريح فبات نقده للسياسة المصرية يعتمد على الشكل المجازي غير المباشر وهو ما كان يتطلب من القارىء أن يسقط ما يقال عن المجتمع الإغريقي على واقع السياسة المصرية المعاصرة.
هجوم على الديمقراطية
رفض الحكيم حكم الفرد المستبد بنفس القوة التي رفض بها الديمقراطية الزائفة وفي المقابل لم يقدم بمسرحيته تصورا بديلا لشكل نظام الحكم الذي يطمح له وعلى لسان شخصية الفيلسوف نراه يشير: «هناك أشياء ينبغي للبشر أن يتركوا أمرها للسماء .. مسألة الحكم واحدة منها .. وإن البشرية أحيانا لترتاح قليلا إذ تلقى تبعة حكم الأرض على اختيار السماء» .. غير أنه بذات الوقت حرص على أن يلوح بنوع من الحكم يقوم على التوازن ما بين الحرية القائمة على الديمقراطية وقوة الحاكم الفرد وحكمة الفيسلوف المفكر مضيفا أن هذه القوى الثلاث المتضادة لابد لها أن تسير أحدها إلى جوار الأخرى دون أن تطغى قوة منها على الآخرييْن: «لابد لنا من أصبع تحرك خيوطنا الثلاثة ونعرف سر التألف بيننا، وتلعب بنا لعب الساحر بتفاحات ثلاث ينثرها ويجمعها فوق يده دون ان تتصادم أو تلمس واحدة الأخرى».
تمثل أهم ما أخذه فؤاد دوارة على تلك الأفكار السياسية التي طرحها الحكيم بمجمل أعماله المسرحية في إسرافه في الهجوم على الديمقراطية وهو إسراف تجاوز – وفقا له- في بعض الأحيان حدود نقد التطبيقات إلى المبدأ ذاته، إلا أن هذا المأخذ لم ينل من قيمة الأفكار السياسية التي طرحها الحكيم بمسرحه فإذا كان المسرح العربي قد عرف مسرحيات محمود دياب وفتحي رضوان وصلاح عبد الصبور والشرقاوي وألفريد فرج وسعد الله ونوس وغيرهم الكثير فإن ذلك ما كان ليتحقق لولا التمهيد الكبير الذي قامت به مسرحيات الحكيم فهي التي جعلت من المسرحية السياسية شكلا مألوفا في الأدب المسرحي العربي وهو أمر لم يكن متاحا خلال ثلاثينيات القرن الماضي حين بادر الحكيم بنشر مسرحياته السياسية الأولى.