رؤى

سفن الحرية التائهة

منذ ثورتهم الأولى ضد العبودية في العالم الجديد في القرن السادس عشر الميلادي٫ لم تهدأ ثورات وانتفاضات مسلمي غرب إفريقيا ضد الأوروبيين الذين جلبوهم من بلادهم الأصلية الى الأمريكتين كعبيد.

واتخذت هذه الانتفاضات أشكالاً وأنماطاً متعددة لعل أبرزها تم على متن السفن التي حملت هؤلاء الأفارقة المسلمين الى العالم الجديد٫ حيث كثيراً ما سعى الأفارقة إلى التمرد على طواقم هذه السفن الخشبية التي شكلت سجناً متحركاً بالنسبة لهم.

ومع كل تمرد كان الأفارقة يسعون لتحويل مسار السفينة وإعادتها مرة أخرى إلى بلدانهم الاصلية على الساحل الغربي للقارة السمراء.

ووفقاً للمؤرخ الإنجليزي نيكولاس غويات فإن هذه النوع من التمرد لم يكن بالأمر النادر او المستغرب بل ان المحيط الاطلسي شهد مئات المحاولات من قبل العبيد الأفارقة لأخذ سفن مستعبديهم عنوة٫ وفي اغلب الأحيان لم تكن محاولاتهم تتكلل بالنجاح.

الا ان هناك بعض الحالات النادرة التي نجح فيها الأفارقة في العودة الى ديارهم٫ حيث تشير المؤرخة السنغالية سليفيان ضيوف الى تمرد ناجح تم على متن احدى تلك السفن عام ١٨٠٠ حين استطاع المسلمون الأفارقة على متن السفينة  السيطرة عليها وإجبار طاقمها على العودة من سواحل الاوروغواي في امريكا الجنوبية الى ساحل السنغال في افريقيا.

ثورة الأفارقة
ثورة الأفارقة

في سبيل الحرية

وفي عام ١٨٠٥ شهدت سفينة “تريال” الاسبانية تمرداً مماثلاً٫ وكانت السفينة تحمل أعداداً من مسلمي غرب أفريقيا الذين اشتراهم تجارُ رقيقٍ أسبان بهدف بيعهم في اسواق أمريكا الجنوبية.

رست السفينة في بداية الأمر في الارجنتين وانزلت عدداً من ركابها هناك ثم توجه طاقمها بالركاب الباقين وعددهم نحو ٧٢ افريقياً الى سواحل تشيلي حيث كان من المخطط أن يُباعوا في أسواق كل من البيرو والاكوادور.

إلا أن المسلمين على متن السفينة والذين توحدوا تحت قيادة رجلين هما “بابو” و”موري” تمردوا على طاقم السفينة وتمكنوا من قتل عدد كبير منهم الا انهم ابقوا على حياة قائد السفينة الاسباني وكان يدعى بينيتو سيرينو الذي أخذوه أسيراً.

وعلى مدار الأشهر التالية حاول كل من بابو وموري التوصل الى طريق العودة الى القارة الافريقية مستعينين بمعرفتهم بالنجوم إلا أن مهمتهم لم تكن بالسهلة  نظراً لأن أغلب رفاقهم لم يكونوا بحارة مدربين ولم تكن لهم دراية بطرق البحر.

السفينة تريال
السفينة تريال

وبحلول شهر فبراير من عام ١٨٠٥ رصدت سفينة “برزيرفانس” الامريكيه السفينة المختطفة وأدرك قائدها وكان يدعى أماسو ديلانو ان السفينة في حالة يرثى لها حيث كانت اشرعتها متهالكة وكان يبدو واضحاً على طاقمها٫ أو من تصور انهم طاقمها٫ الانهاك والجوع.

وهنا قرر ديلانو الاقتراب من السفينة “تريال” وتزويدها بالمؤن والمياه٫ والطريف هنا أن الافارقة المسلمين بقيادة كل من بابو وموري تظاهروا بأنهم طاقم السفينة الاصلي مستعينين بما تعلموه من اللغه الاسبانيه قبل ثورتهم وكان هذا كافياً فيما يبدو لإقناع ديلانو بأنهم حقاً بحارة السفينة.

إلا أن خطه الأفارقة افتضحت حين تمكن القائد الأسير سيرينو من الهرب من العبيد المتمردين والوصول إلى متن “برزيرفانس” حيث أخبر ديلانو بحقيقة الوضع على متن “تريال”.

وهنا قرر ديلانو مهاجمة السفينة المختطفة وخاض الافارقه معركة شرسة  ضد طرف يفوقهم في العدد والعتاد٫ وانتهت المعركة بمقتل أغلب الأفارقة المتمردين بما فيهم قائدهم بابو وتم تسليم من تبقى منهم إلى السلطات الاسبانية لكي تقرر مصيرهم.

ألهمت هذه القصة المدهشة الكاتب الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل الذي حول احداثها الى روايه عام ١٨٥٥ حملت عنوان “بنيتو سيرينو” أو “سيرينو الطيب” باللغة الاسبانية.

رواية هيرمان ملفل
غلاف الرواية

ومن الطريف حقاً ان الجمهور الذي أُعجب بالرواية عند صدورها٫ تصور -في أغلبه- أنها قصة خيالية في حين أن الكاتب استوحى اغلب احداثها وشخصياتها من يوميات اماسو ديلانو قائد السفينة “برزيرفانس” والذي  كان – هذا الأخير- قد نشرها في عام ١٨١٧ وضمنها تفاصيل تجربته الشخصية مع المتمردين الأفارقة.

غلب على الرواية سرد الأحداث من وجهة نظر الإسبان سواء ديلانو أو سيرينو٫ وذلك من خلال شخصية راو خيالي ابتكره المؤلف٫ أما رواية كل من بابو وموري وكل من هم مثلهم للأحداث فيبدو أنها مازالت في انتظار كاتب منصف يعيد الاعتبار لهؤلاء الأفارقة الثائرين ولنضالهم في سبيل الحرية والعودة. إلى أوطانهم

المصادر:

https://www.blackpast.org/global-african-history/tryal-slave-ship-rebellion-1805/

https://www.lrb.co.uk/the-paper/v37/n06/nicholas-guyatt/whalers-v.-sealers

https://www.theguardian.com/books/2014/apr/16/empire-necessity-untold-history-slave-rebellion-review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock