في كتابه الطريف “إذاعة الأغاني” يروي الكاتب عُمر طاهر تجربته الشخصية مع أغاني السيدة أم كلثوم٫ المطربة التي اختصها شعبنا بلقب “الست” فلم يمنحه لأي مطربة قبلها ولا بعدها.
يقول طاهر أنه قبل سنوات طويلة قال للكاتب الصحفي الراحل محمود عوض إنه لا يحب “الست” وبدلاً من أن يغضب الكاتب المخضرم استوعب رغبة شاب في تكسير كافة الثوابت والاساطير ورد عوض بثقه ابويه “لما تكبر هتحبها”.
دار الزمن دورته واكتشف الشاب الذي تباهى ذات يوم بأنه لا يحب الست ان اغانيها تنفذ الى روحه وتصبح انيس الليالي الطويلة وصوتها “يقلب تربة الروح بمعول الماظ” على حد تعبيره.
تجربة عمر طاهر مع اغاني الست على طرافتها ليست بالأمر الفريد او الاستثنائي بل ازعم انها تجربة عاشها ويعيشها كثيرون وربما يعيشها الآن بشكل أوضح كل من ولدوا مثل كاتب هذه السطور في أوائل ثمانينات القرن العشرين.
نشأت في بيت “فيروزي” الهوى إذا صح التعبير -نسبة إلى السيدة فيروز اللبنانية- مما جعلني بطبيعة الحال وحتى سنوات مراهقتي منحازاً لذلك الصوت الملائكي واغانيها التي بدت خفيفة على السمع وسهله الحفظ خاصة إذا ما قورنت باغاني الست الطويلة للغاية.
إلا أن الأمر بدأ يتغير مع نهاية دراستي الثانوية كانت بداية استماعي الى الست حين ضم منهاج اللغة العربية المٌقرر علينا قصيدتين تغنت بهما هما “أراك عصي الدمع” لأبي فراس الحمداني و”مصر تتحدث عن نفسها” لشاعر النيل حافظ ابراهيم.
ابتعت كلتي القصيدتين على شرائط حيث كنا لا نزال في زمن الكاسيت وعكفت استمع الى أداء الست لهما وأنا أقرأ النص الأصلي في ذات الوقت.
كانت تجربة مختلفة بامتياز عن كل ما سمعت من قبل٫ مع اغاني الست انت لا تتمايل طرباً ولا تستبد رغبة للرقص وانما تدخل تجربة روحانية اشبه بتلك التي يعيشها المتصوف حين يدلف الى الحضرة.
استمرت رحلتي مع الست في سنوات الجامعة ووقتها تزامن الأمر مع عرض مسلسل درامي عن سيرتها وحياتها لاقى نجاحاً واسعاً.
وعلى عكس كثيرين من أبناء جيلي لم تجذبني اغاني الست الرومانسيه بقدر ما جذبتني قصائدها المغناة واقتنعت تماما برأى الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ في هذا الصدد وهو أن ما يميز أم كلثوم عن غيرها هو قدرتها المدهشه على انتقاء القصائد وغنائها بلغة عربية سليمة ولعل هذا يرجع إلى نشأتها في رحاب مدرسة الشيوخ سواء أبيها الشيخ ابراهيم او أستاذها ومعلمها الشيخ أبو العلا محمد.
وجدت نفسي انتقل الى عوالم اخرى والست تغني في مدح النبي الكريم كلمات احمد شوقي:
“أبا الزهراء قد جاوزت قدري
بمدحك بيد أن لي انتسابا”
وشعرت بنفسي اركض بذات الشكل الذي تصفه في قصيدة الاطلال للشاعر ابراهيم ناجي حين تقول “وعدونا فسبقنا ظلنا”.
ومع بلوغي سن الثلاثين٫ سن العمل والاغتراب عن الوطن٫ زاد اعجابي بالست حين شاهدت حواراتها التلفزيونية المسجلة -على قلة عددها- لاسيما ذلك الحوار الذي أجرته معها الشهيده سلوى حجازي في قلب العاصمة الفرنسية باريس حين كانت الست تقيم الحفلات وتجمع إيراداتها لصالح المجهود الحربي أواخر الستينات.
حين سالت حجازي ام كلثوم عما اعجبها في باريس لم تشر الست الى الموضه والازياء او غير ذلك وإنما اجابت ببساطة الفلاحة المصرية التي كانت مازالت تسكنها رغم الشهرة والثراء ” المسلة المصرية…لانها بتاعتنا”.
كما لم تستكثر الست في ذات الحوار التبرع بكامل الأجر الذي تقاضته لصالح المجهود الحربي معتبرة ان “بلدنا تستاهل”.
أنيسة سن النضج
واليوم وقد قاربت الأربعين من عمري٫ أدركت ما عناه الأستاذ محمود عوض بقوله “لما تكبر هتحبها”٫ حيث أن السيدة التي كنت اعتبر ذات يوم الاستماع اليها والى اغانيها الطويلة أمراً شاقاً اصبحت انيسه تلك الليالي التي انتوي فيها السهر وانا ارشف كوب الشاي وأصبحت خير من يصاحبني وانا امارس رياضة التأمل التي نصحني بها الطبيب او حين اتصفح كتاباً شيقاً.
ان “الست” ام كلثوم و موسيقاها وأغانيها في رأيي لغز مصري خالص٫ وشأنه شأن الكثير من الألغاز في حضارة هذا الوطن العريقة٫ يلزمه قدر غير يسير من النضج حتى يستطيع الفرد أن يفك طلاسمه وأن يفهمه وأن يسبر أغواره.