أخرج كل من الإمامين البخاري ومسلم في صحيحيهما قصة مفادها أن النبي الكريم (صلعم) مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: (أليست نفساً).
ورغم أن القصة في جوهرها تنتصر لفكرة إنسانية سامية وهي احترام الموت والنفس البشرية -اياً كانت عقيدتها- في حال رحيلها عن هذه الدُنيا٫ الا ان نفراً غير قليل من “شيوخنا” الافاضل ابى الا ان يُفرغها من محتواها٫ معتبراً ان اليهودي أدنى واقل من أن يقوم النبي الكريم احتراماً لجنازته٫ فاخترعوا تفسيرات ما انزل الله بها من سلطان لتصرف النبي الكريم لا علاقة لها بالتسامح او بقبول الآخر٫ فهي امور٫ بطبيعة الحال٫ لا يعرفونها ولا وجود لها في معاجمهم٫ وتصل تفسيراتهم الى حد مضحك للغاية حين يزعم بعضهم أن النبي انما قام للملائكة أو يذهب بعضهم الآخر الى أبعد -او قل اسخف- من ذلك حين يعتبر ان النبي انما نهض لكي لا يكون جسد اليهودي المسجى اعلى من جسده الشريف وهو جالس.
مناسبة للشماتة!
أتذكر هذه القصة ودلالتها واتذكر هذه التفسيرات الشديدة السطحية كلما تابعت ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تجاه رحيل كتاب ومفكرين عرب عن الساحة الى العالم الاخر.
فالموت الذي نشأ كاتب هذه السطور وكثيرون مثله من أبناء أمتنا على احترام هيبته ووقاره بات فيما يبدو امراً لا يستدعي سلوكاً يليق به٫ بل صار مناسبة للشماتة والاستهزاء بالمتوفي او المتوفيه ان كان من الفريق الاخر٫ اي ببساطة من تيار فكري لا انتمي اليه ولا اتفق معه.
فما ان يُعلن خبر وفاة شخصية بعينها٫ حتى يسارع من اختلفوا معه او معها في الحياه الى ابراز شماتتهم بل ولا ابالغ ان قلت فرحتهم بهذا الخبر بل ويذهب البعض الى حد ان يمنح لذاته ما خص الخالق تعالى به نفسه وهو ان يحدد مصير من يرحل عن عالمنا فيحكم ان هذا مصيره إلى الجنة او ان ذاك مصيره الى الجحيم.
والملاحظ أن هذا السلوك غير الآدمي لم يعد قاصراً على تيار بعينه٫ اذ اصبحت الحزبية فيما يبدو هي معيار الترحم على المتوفى من عدمه٫ فالمتوفي في جنات ونٌهر إن كان من فريقي اما ان كان من “الاعداء” لا قدر الله فهو في الدرك الأسفل من النار ويحق لي ان اصب عليه كل ما يحتويه المعجم من لعنات والفاظ سُباب.
صار الانتماء الحزبي امراً يغفر كافة خطايا الشخص المتوفي وصار الاختلاف الحزبي في حد ذاته سبباً كافياً لكراهيه الراحل واظهار الابتهاج بموته.
ظاهرة عربية
ومن الملاحظ أن هذه الظاهرة لم تعد ظاهرة مصرية فحسب بل تعدت حدود المحروسة لتمتد إلى عالمنا العربي بشكل عام لا سيما في ظل الانقسام العميق الذي خلفته سنوات ما عٌرف بالربيع العربي أو الانتفاضات الشعبية العربية التي شهدها العقد الماضي.
بل إن الاستشهاد في مواجهة العدو والمحتل والمستعمر الأجنبي والذي كان المرء يظن حتى وقت قريب أنه قيمة جامعه لا يكاد يختلف عليها اثنان٫ بات في عصرنا هذا أمرا غير ذي صله٫ فحين قُتل عميد الاسرى اللبنانيين في سجون العدو سمير القنطار على يد العدو الصهيوني في سوريا لم ير معارضو النظام السوري في هذا امراً يستحق الترحم عليه نظراً لأن الراحل كان ينتمي الى حزب يدعم النظام في الحرب الدائرة رحاها في ذلك القطر العربي وحدث العكس تماماً حين اغتال الموساد الصهيوني المهندس التونسي محمد الزواري بسبب دوره في دعم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة٫ حيث بادر أنصار النظام السوري بإظهار فرحتهم بمقتل شخص ينتمي- وفقاً لمنطقهم -الى حركة “خانت” سوريا على حد تعبيرهم.
هذه المواقف تعد في رأيي ردة ثقافية وانتكاسه لثقافة الأمة المتوارثة التي كان الموت حتى وقت قريب في عٌرفها امراً يجمع ولا يفرق ويعتبر العزاء امراً واجباً والترحم على الميت – اياً كان- فرضاً ويرى أن كافة الخلافات يجب أن تنحى جانباً إذا ما حل الموت.
إن أمة لا تحترم موتاها هي أمه بحاجة الى علاج عاجل٫ علاج يردها إلى موقف النبي الكريم المشار إليه في بداية هذا المقال والى تراثها الذي يحترم الانسان روحاً وكياناً.