“محلاك يا مصري
وانت على الدفه
ومصر عامله
في القنال زفه”
أتذكر هذه الكلمات التي صاغها الشاعر الراحل صلاح جاهين وانا اشاهد مقاطع فيديو متداولة عبر شبكة الانترنت تصور المشاهد الاولى من نجاح القاطرات المصرية في تعويم السفينة البنمية “ايفر جيفن ” التي جنحت في مياه قناة السويس وتسببت في تعطيل الملاحة في القناة٫ أهم ممر مائي في العالم٫ لنحو اسبوع.
https://www.youtube.com/watch?v=t6eXfbCQb_E
تتصاعد في مقاطع الفيديو أصوات التهليل والتكبير والحمد لله تعالى وتبدو الأجواء فيها بشكل عام أجواء احتفالية٫ لا بنجاح العملية فحسب بل بأن هذا النجاح الباهر تم بأيد مصرية صميمة٫ حيث ان اغلب القاطرات التي استخدمت في هذه العملية في شمال القناة وجنوبها على حد سواء كانت مصرية وتحمل أسماءً ذات دلالة تاريخية مثل محمد عزت عادل وهو أحد أعضاء فريق تأميم القناة عام ١٩٥٦ ومصطفى محمود وهو رائد بحري مصري نال شرف الشهادة في مواجهات مع العناصر الإرهابية خلال العملية الشاملة “سيناء 2018” و مشهور أحمد مشهور نسبة إلى الرئيس السابق لهيئة قناة السويس وعبد الحميد يوسف نسبة الى احد ابرز المهندسين في تاريخ الهيئة وذلك اضافة الى قاطرة هولندية.
ولعل أبرز ما في هذا الإنجاز أنه تم بعد أيام عدة من تصاعد نبرة الشماتة من جهات خارجية وداخلية على حد سواء وتندر البعض على ما اعتبره عدم قدرة المصريين على ادارة أهم مرفق حيوي في بلادهم٫ فإذا بالسواعد المصرية السمراء التي لفحها لهيب الشمس تثبت حقد وكذب هؤلاء الشامتين وتؤكد قدرتها التي شكك فيها البعض.
ورغم كافة الصعوبات٫ نجح أبناء مصر ورجال قناة السويس في تعويم سفينة يبلغ طولها 400 متر وعرضها 59 مترا و حمولتها 200 ألف طن، وتصل سرعتها إلى 98 عقدة (نحو 181 كلم/ الساعة).
ما أشبه الليلة بالبارحة
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يثبت فيها المصريون قدرتهم على إدارة قناتهم – رغم تشكيك الخارج- فعقب قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في يوليو من عام ١٩٥٦ سعت كل من بريطانيا وفرنسا لإثبات عجز الإدارة المصرية الجديدة بقيادة المهندس محمود يونس عن تسيير العمل والملاحة في القناة.
وكان سبيل الدولتين الى ذلك هو حرمان القناة من المرشدين البحريين٫ وبإيعاز من حكومتي ايدن في لندن وجي موليه في باريس٫ بدأ المرشدون والعمال الأجانب ينسحبون من العمل في القناة بداية من منتصف شهر سبتمبر عام ١٩٥٦ وكان الهدف واضحاً وهو تعطيل العمل وإظهار مصر بمظهر العاجز عن إدارة الشركة التي قامت بتأميمها.
إلا أن القيادة المصرية فطنت إلى هذه الخطة واعدت العدة لمواجهتها٫ فعقب انسحاب المرشدين الأجانب والذين بلغ عددهم نحو مائتي مرشد٫ فاجأ يونس الجميع بدفعه ب ٦٨ مرشداً من بينهم 53 مصريًا و6 يونانيين و9 من جنسيات مختلفة إلى العمل في القناة.
وحين أخفقت خطة تعطيل القناة عبر سحب المرشدين٫ انتهجت كل من بريطانيا وفرنسا نهجاً آخر وهو إرسال أعداد كبيرة من السفن لعبور القناة دفعة واحدة لارباك الاداره المصريه٫ وترافق ذلك مع حمله اعلامية شرسة عبر إذاعات عدة تدعي أن مصر قامت بتدريب طلاب في الثانوية تدريباً سريعاً على إرشاد السفن، مما يشكل خطورة على حركة الملاحة والتجارة العالمية.
وهنا تصدى لهذه الخطة مرشد مصري شاب هو علي نصر والذي تم تكليفه بإرشاد أول سفينة من هذه السفن داخل القناة والتي تصادف أنها سفينة ألمانية.
ومرت الدقائق عصيبة وقلوب الملايين في مصر والعالم العربي متعلقة بتلك السفينة٫ الا ان نصر تمكن من إدخالها الى المجرى الملاحي وعلى ضفة القناة كان المهندس يونس يقود سيارته بجوار المجرى الملاحي مشجعاً نصر عبر مكبرات الصوت ومنادياً كل مرشد باسمه حتى تم إدخال السفن واحدة تلو الاخرى.
تنفس المصريون الصعداء٫ ووجد نصر ورفاقه في انتظارهم عند عودتهم برقية من الرئيس عبد الناصر تقول «الشعب المصري يهنئكم وقرر منحكم وسام الاستحقاق»٫ في حين زاد حنق الدول الاستعمارية لاخفاق خطتها للمره الثانية على التوالي.
لم يستطع الاستعماريون أن ينالوا بسلاح العدوان العسكري ما لم ينالوه بسلاح المرشدين والسفن٫ فالشعب ذاته الذي احبط مؤامرة المرشدين هو ايضاً الذي هزم العدوان الثلاثي على مدن القناة وانسحبت جيوش العدوان في ديسمبر عام ١٩٥٦ وبقيت مصر محتفظه بقناتها وسيادتها.
واليوم يعيد احفاد نصر ويونس التذكير بما صنعه أجدادهم ليؤكدوا٫ كما قال جاهين في أغنيته المشار إليها في بداية المقال٫ انه “مفيش محال” مع الإرادة المصرية.