رؤى

كيف استثمرت الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب على حساب الصحة العامة؟!

عرض وترجمة: أحمد بركات
بقلم: إليزابيث رروزينسال

إليكم درس مهم يطل برأسه من تحت ركام الاستجابة الكارثية التي قدمتها حكومة الولايات المتحدة في مواجهة تفشي كوفيد – 19 في عام 2020: “

على مدى 20 عاما كاملة، أسرفنا في إغداق الاهتمام وإنفاق الأموال على مكافحة الإرهاب البشري، ناسين، أو متناسين أن إرهاب الطبيعة قاتل أيضا وبذات الدرجة من البشاعة، ومن ثم كان مستحقا لذات الدرجة من الاستعداد والتأهب.

واليوم، وبعد سقوط أكثر من 454 ألف حالة وفاة بسبب كوفيد، أرجو أن نكون قد استوعبنا الدرس وتعلمنا من الثمن الفادح الذي تكبدناه في مقابل ترك البنية الصحية العامة في الولايات المتحدة نهبا للتهالك، في الوقت الذي كنا نقتفي فيه عن كثب، وعلى مدى عقود من الزمان، وبعقلية أحادية صرفة، أثر الحرب على الإرهاب. وبالتدريج، ومن حيث لا يدري أحد، إليكم كيف حدث ذلك.

بنية تحتية للكشف عن الارهاب

فبعد أحداث 11 سبتمبر المروعة، وهجمات مسحوق الجمرة الخبيثة التي أعقبتها، أنشأت الولايات المتحدة سريعا بنية تحتية متميزة للكشف عن الإرهاب ومحاربته، مع التركيز في الغالب على التهديدات القادمة من كيانات دولية فاعلة. وفي غضون أسابيع، أقر الكونجرس “قانون باتريوت”، والذي أنشئت على إثره “وزارة الأمن الداخلي” و”هيئة سلامة النقل”، التي بلغت ميزانيتها السنوية حوالي 8 مليار دولار، من أجل – من بين أشياء أخرى – القيام بأعمال الفحص المكثف في المطارات.

بوش يوقع على وثيقة قانون باتريوت
بوش يوقع على وثيقة قانون باتريوت

وتم إمداد جميع الولايات، بما في ذلك المقاطعات النائية نسبيا، بمعدات شبه عسكرية. وكمراسل كان مسؤولا عن تغطية انتخابات عام 2004، أذكر أنني شعرت بالصدمة لرؤية عربات “الهامفي”، والجنود يرتدون الدروع الواقية في أسواق المقاطعات في الغرب الأوسط، رغم أنهم بدوا هدفا غير محتمل للإرهاب. وفي السنوات التالية، أدى حمل الإرهابيين للمتفجرات في أحذيتهم وملابسهم الداخلية على متن الطائرات إلى مزيد من إجراءات الفحص المعقدة.

وللأسف، جاء جزء كبير من هذا الاهتمام من قبل الدولة والاستثمار في مجال مكافحة الإرهاب على حساب الصحة العامة. في هذا السياق، أشار د. توم فريدن، مفوض “إدرة الغذاء والدواء” السابق في شرحه لأحد الأسباب التي دفعت بالحكومة الفيدرالية إلى تكديس مخزون هائل من لقاح الجمرة الخبيثة، وفشلها في توفير أجهزة تهوية بأعداد كافية عندما ضرب كوفيد – 19 البلاد: “لا يوجد سوى الكثير من الأموال، ولذلك إذا اشتريت المزيد من شيء ما، فعليك أن تشتري أقل من شيء آخر”.

ومع تشديد دفاعاتنا ضد الإرهاب الدولي والبيولوجي، تقلصت، من الناحية الأخرى، دفاعاتنا ضد الأمراض المعدية.

وعلى الرغم من قلق كثير من خبراء الصحة العامة من تفشي أوبئة محتملة، كان من الصعب جذب انتباه المشرعين إلى هذا الأمر. وإجمالا، بحلول نهاية تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك عقاقير لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، الأنفلونزا، وغيرهما من الأمراض المعدية،وهو ما يفسر – ولو جزئيا – أسباب التخلص التدريجي من مصدرين كبيرين للمال تم تدشينهما بعد 11 سبتمبر، وهما “برنامج التأهب لطوارئ الصحة العامة”، و”برنامج استعداد المستشفيات”.

وانخفض التمويل الفيدرالي للتأهب للصحة العامة على المستوى الولاياتي  والمحلي والقبلي من 940 مليون دولار في عام 2002 إلى 675 مليون دولار في عام 2019، بحسب تقرير صادر عن “مجموعة ترست للصحة الأمريكية”، وهي مجموعة بحثية غير حزبية. وعندما أدى ركود عام 2008 إلى تقليص الميزانيات الحكومية، تم تحويل الأموال مرة أخرى من برامج الصحة العامة لدعم خدمات أخرى.

احتجاجات ضد ازمات الرعاية الصحية في أمريكا
احتجاجات ضد ازمات الرعاية الصحية في أمريكا

ومن خلال “قانون الرعاية الميسرة” تم إنشاء “صندوق الوقاية والصحة العامة”، مع وعد باستثمارات تصل إلى ملياري دولار سنويا بحلول عام 2015. ولكن إدارة أوباما والكونجرس قاما بخفض هذا المبلغ إلى النصف لحساب أولويات أخرى.

ومع وصول الفيروس القاتل إلى شواطئنا في العام الماضي، كان ثلثا الأمريكيين تقريبا يعيشون في مقاطعات تنفق على الأمن أكثر من ضعف ما تنفقه على الرعاية الصحية خارج المستشفيات وفقا لتحقيق أجرته غرفة أخبار “كايزر هيلث  نيوز” ووكالة “أسوشيتد برس”.

ومنذ عام 2010، انخفض الإنفاق على إدارات الصحة المحلية بنسبة 18%، واختفت 38 ألف وظيفة في قطاع الصحة العامة على المستويين الولاياتي  والمحلي منذ الأزمة المالية التي اجتاحت العالم في عام 2008. وعندما ضرب كوفيد البلاد، لم يكن لدى حوالي 75% من المقاطعات اختصاصيو أوبئة ضمن أطقم العاملين لتتبع المرض.

على الجانب الآخر، نظم قطاع الصحة العامة في كوريا الجنوبية وتايوان، من بين دول أخرى، استجابة سريعة وقوية بمجرد بدء تفشي المرض. وساعدت إجراءات مثل الاختبارات وتتبع الاتصال والحجر الصحي على السيطرة على انتشار المرض والحد من سقوط الوفيات، كما لعبت الأنظمة الوطنية الجيدة للسجلات الصحية الإلكترونية دورا مهما في مواجهة الجائحة.

وفي كوريا الجنوبية التي يبلغ تعداد سكانها 51 مليون نسمة، بلغت أعداد الوفيات الناجمة عن كوفيد 1600 حالة فقط. أما في تايوان فلم تتجاوز الحصيلة التراكمية لوفيات كوفيد 10 حالات من إجمالي 26 مليون نسمة.

كورونا في كوريا الجنوبية
كورونا في كوريا الجنوبية

استجابة سيئة

أما في الولايات المتحدة، فقد جعل الرئيس السابق  دونالد ترمب استجابة البلاد أسوأ بكثير بسبب الأكاذيب الفجة والإنكار المستمر والتهميش المتعمد للخبراء الطبيين في الحكومة. لكن الأهم من ذلك هو أن النقص الصارخ في وكالات الصحة العامة الفعالة والأفراد الأكفاء في معظم أنحاء البلاد جعل الاستجابة السريعة والقوية ضد الفيروس المستجد ضربا من المستحيل.

كانت “مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها” الأمريكية يُنظر إليها على أنها معقل الخبرة العلمية العالمية، ولكن هذا الأمر لم يُترجم طوال الوقت إلى عمل جيد في مجال الصحة العامة على أرض الواقع. وجدير بالذكر أن مرض شلل الأطفال تم القضاء عليه في الولايات المتحدة من خلال حملة تطعيم نظمتها إلى حد بعيد مؤسسات خيرية.

إن التكاليف البشرية التي يفرضها الوباء لا تحصى. وسوف يستغرق الأمر سنوات لحساب التكايف المالية الإجمالية لفقدان الوظائف وإغلاق المشروعات التجارية، والحزمة التي تزيد عن 5 تريليونات دولار والتي تم اعتمادها في المساعدات الفيدرالية لاحتواء الكارثة، والأموال التي ربما تم إنفاقها على الاستثمارات طويلة الأجل في التعليم والبيئة، وغيرها.

أما المأساة الحقيقية فتكمن في أن جزءا كبيرا من هذه الخسائر كان يمكن تجنبه حال توافرت بنية تحتية صحية قوية وفعالة في بداية عام 2020. وكان يمكن أن يتحول الاستثمار في هذا القطاع إلى صفقة رابحة مقارنة بما تم إنفاقه خلال عام 2020 فقط، ناهيك عن العبء المالي الهائل الذي سينوء به الكاهل الأمريكي في المستقبل.

ويقدر بعض الخبراء أن الولايات المتحدة تعاني من عجز بواقع 250 ألف عامل في مجال الصحة العامة، وهو يعادل تقريبا عدد الأشخاص الذين يعملون الآن في وزارة الأمن الداخلي (ثالث أكبر وكالة على مستوى مجلس الوزراء). لكن العجز ، في واقع الأمر، يتجاوز بكثير أعداد العاملين.

انتشار فيروس كورونا في امريكا
انتشار فيروس كورونا في امريكا

فمركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، وإدارات الصحة العامة المحلية تحتاج إلى تجهيزها بنفس المستوى من الأدوات المتطورة التي يتم توفيرها، على سبيل المثال، من أجل عمليات الفحص في المطارات. وبرغم أن الحكومة الفيدرالية أنفقت 36 مليار دولار لرقمنة السجلات الطبية، لا تزال الولايات المتحدة تفتقر إلى قاعدة بيانات وطنية رقمية موحدة يمكن من خلالها تتبع عملية توزيع اللقاحات.

لقد ساعدت الولايات المتحدة من خلال “عملية وارب سبيد” وعمليات الشراء الخاصة في إتاحة لقاحات جديدة، ما يمكن أن يمهد الطريق للقضاء على الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية. وبحلول نهاية عام 2020 كانت الحكومة قد  أنفقت 12.4 مليار دولار من أجل توفير جرعات اللقاحات المضادة لكوفيد – 19، وقامت إدارة بايدن بشراء مئات ملايين الجرعات الإضافية من أجل تطعيم معظم الأمريكيين بحلول الصيف.

لا شك أن هذا العمل يأتي في مصاف الإنجازات العظيمة بكل المقاييس. لكن.. ماذا لو أنفقت بعض هذه الأموال على الصحة العامة على مدى العقود الماضية؟ وعود على بدء، كان حلول الوباء درسا مهما وقاسيا في آن بأن إرهاب الطبيعة أمر لا يمكن تجاهله، وتذكرة بليغة بأن منظومة الصحة العامة في الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة بناء.

*إليزابيث رروزينسال – رئيسة تحرير شبكة “كايزر هيلث نيوز”، ومؤلفة كتاب “An American Sickness: How Healthcare Became Big Business and How You Can Take It Back” (2017) الأكثر مبيعا في قائمة “نيويرك تايمز”، وأحد أبرز الكتب في قائمة “واشنطن بوست” عن ذاك العام.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock