لفت زميل من مدينة بورسعيد الباسلة نظري لنوعية معينة من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي على أزمة السفينة الجانحة في مياه قناة السويس والتي انتهت مؤخراً مع نجاح عملية تعويمها.
كانت هذه التعليقات تربط بشكل لا يبدو بريئاً على الإطلاق بين هذه الأزمة التي تعرضت لها القناة وبين نجاح الرأي العام في بورسعيد وفي مدن القناه بشكل عام في منع حملة كانت تهدف لإعادة تمثال الفرنسي فرديناند ديليسبس الى قاعدته الحجرية على مدخل القناة.
حيث اعتبر هؤلاء “المعلقون” على اختلافهم أن ما حدث هو نتاج لما أسموه “لعنة ديليسبس” والتي ذهبوا الى حد القول انها تفوق في تأثيرها وقوتها “لعنة الفراعنة” المزعومة٫ ودعوا إلى إعادة التمثال إلى بورسعيد التي لفظته ذات يوم لكي “ينعدل الحال” على حد تعبيرهم وتعود الأمور الى طبيعتها.
منطق خبيث
هذه التعليقات التي لا أحسب أبداً انها من قبيل الصدفة أكدت لدي ما سبق ان ذهبت اليه في مقال سابق وهو أن كل جلد للذات من قبل بني وطني من المصريين سواء اتخذ شكل السخرية المريرة او غير ذلك يصب بالضرورة في صالح انصار التدخل الخارجي.
فان كان المصري حقاً وفقاً لهذا المنطق عاجزاً عن إدارة بلاده ومرافقها فلا بد له إذن أن يتقبل أن يأتي المنقذ “الخواجة” لكي يخرجه مما هو فيه٫ وعلى المصري أن يتقبل صاغراً ان يعود رمز استعماري ليشرف على القناة التي حفرها أسلاف هذا المصري بمعاولهم وسواعدهم وجرت دماؤهم فيها قبل أن تجري المياه.
فات أصحاب هذا المنطق الشديد الخبث أن المصري ليس بالعاجز كما يظنون ولا بالقاصر لكي يخضع لرقيب اجنبي ما٫ وان احفاد من أسقطوا تمثال ديليسبس ذات يوم قادرون على حفظ قناتهم وهو ما أثبتوه بالفعل حين نجحوا في تعويم السفينة الجانحة في فترة أقصر بكثير مما توقعه اغلب الخبراء الاجانب.
أما ديليسبس٫ الذي تسبب في مقتل آلاف العمال المصريين في القناه بفعل السخرة وظروف العمل غير الآدمية والذي مات عام 1894 مداناً ومحكوماً عليه بالسجن في تهمة نصب شهيرة عُرفت باسم (قضية بنما)، ولم يقم له أي تمثال في بلده فرنسا٫ فلم “يُسرق” تمثاله كما ادعى المدعون وإنما أسقطته يد المقاومة الشعبية الباسلة التي رأت فيه رمزاً استعمارياً جاثماً على صدر مدينة بورسعيد.
ويذكر يحيى الشاعر٫ أحد رموز هذه المقاومة في كتابه “الوجه الآخر للميدالية” أن جنود العدوان الثلاثي عند انسحابهم من بورسعيد وضعوا علميْن احدهما بريطانى والآخر فرنسى متوسطي الحجم على يد تمثال ديليسبس اليمنى، ووضعا على رأس التمثال غطاء رأس “بيريه” من وحدة مظلات فرنسية٫ وهو ما عده المصريون المحتشدون عند التمثال “عملاً استفزازياً”.
ويضيف الشاعر أنه كُلف من قبل اليوزباشى «سمير غانم» قائد المقاومة السرية بنسف هذا التمثال وهو ما نجح فيه بالفعل بعد عدة محاولات افادته فيها خبرته كفدائي٫ لينهار التمثال ويسقط وسط تهليل وتكبير من اهالي بورسعيد.
كانت فرحة الأهالي بسقوط هذا التمثال أمراً مفهوماً تماماً لمن يعرف تاريخ صاحبه الحقيقي وليس ذلك الذي يسوقه مَن يسعون لإعادة تمثاله٫ من يعرفون أنه تسبب في مقتل 125 ألف مصري من أسلافهم خلال حفرهم لقناة السويس في القرن التاسع عشر الميلادي ويعرفون أن أسهم في احتلال الإنجليز لمصر عام ١٨٨٢ بخيانته للزعيم الوطنى أحمد عرابى ورفاقه وسماحه لجيش العدوان الانجليزي باستخدام القناة رغم تعهده السابق لعرابي بأن تظل القناة “حيادية” في هذا الصراع٫ ليفتح الباب بذلك على مصراعيه لاحتلال انجليزي لمصر دام أكثر من سبعين عاماً.
لم يخش الشاعر ورفاقه “لعنة ديليسبس” المزعومة في ١٩٥٦ كما لم يخشها رجال هيئة قناة السويس في ٢٠٢١ وكما أسقط رجال المقاومة الشعبية تمثاله ذات يوم٫ اسقطت سواعد عمال الكراكات والقاطرات والسفن أكذوبة “لعنته”.