حتى الساعة لم يتصد دارس ولا باحث في الفلكلور المصري، – وأخص الصعيدي للثراء الذي ينعم به الصعيد المصري بدائرة التراث الشعبي-، للمسكوت عنه، وهنا أوجه اللوم للباحثين لتقصيرهم الشديد في هذا الباب؛ وبقدر ما ألومهم ألوم الجهات الرسمية التي تضطلع بمسؤولية الطباعة والنشر ودور النشر الخاصة أيضا، فجميعها تخاف رد الفعل وتذعن للرقابة المجتمعية، وتغض الطرف عن هذا الباب الكبير المختلف، وأما لومي على الكتاب أنفسهم فلأن خصوصية النشر اتسعت بحيث يمكنهم صنع دراساتهم وأبحاثهم ونشرها على صفحاتهم الشخصية بالسوشيال ميديا أو بصيغة بي دي إف، وتوزيعها بأنفسهم على المهتمين والأصدقاء ومن يثقون في وعيهم ومن شاؤوا من الناس، بدون هلع واضطراب وحذر من التبعات.. ففي النهاية هم يدرسون ميراثا موجودا لا مختلقا، كما أن لهم رأيا فيه ورؤى حوله، قد تختلف معه جذريا وقد تتفق بحسب يقين الدارسين والباحثين، لكنها تنقله بأمانة قبل أن يندثر وتمحِّصه، وتقدمه للوطن كجزء من ميراثه الشعبي، ولو كان بغيضا، وللجماهير التي لا يصح في عصور الانكشاف أن تظل عمياء عما يخص إرثها من الأجداد والجدات.
تابوهات الفلكلور
في الفلكلور، كما في الأدب، المحظورات هي نفس المحظورات في نفس المجالات الثلاثة: الدين والجنس والسياسة، فالكلام في هذه المجالات يجب أن يكون رمزيا، وإن كان صريحا فلا بد أن يكون محسوبا بدقة، لكن الموروث عرف الرمز السياسي وحده، وراعاه، ولم يبال بالترميز في حكايتي الدين والجنس؛ فعواقب الحديث السياسي البسيط الواضح خطيرة لو كانت الروح ساخطة معارضة محتجة، أما الدين فيمكن تأويل الحكاية لصالح قائلها، ومن الدين نفسه، ويمكن إيجاد مخارج من الخطأ، كما أن الله وحده هو من يحاسب الناس لا رجال الدين ولا الأوصياء على ما يعتقده البشر وما لا يعتقدونه، وأما الجنس فكم يقبل الخلق على الحديث فيه، وكلما أظهر المتكلم تهتُّكا كان الإقبال أكثر وأكبر، بصرف النظر هنا عن البعد الأخلاقي الذي يدين المتكلم والمستمع؛ فكم يبرز من الناس شيء كالحرص على الأخلاق وكم تناقض أفعالهم هذا الحرص على مدى الأزمنة!
https://www.youtube.com/watch?v=5wvXi6FaE3s
قبل أن أسوق أمثلة على ما وصفته بالمسكوت عنه ووضحت مجالاته، أود أن أبين، لمن لا يعلمون، أن الصعيد المصري هو أكبر جغرافيا بوطننا العزيز، يمتد من أسوان جنوبا إلى الفيوم شمالا، وأنه ليس واحدا وإن بدا متشابها بحكم الصلة والقربى وتلاحم العظم وتلاقح الأفكار، فقد يكون في شماله ما في جنوبه وقد لا يكون، والعكس صحيح، وفي هذه الكتابة أركز على الصعيد الجنوبي بالتحديد، وأرصد نصوصا من هناك، لا أود التوسع في رصد النصوص، وسأكتفي بنص واحد في كل مجال؛ ليس لأن الموضوع صادم فحسب، فلا بأس بطرقه في جميع الأحوال، وهو عين ما أدعو إليه الآن، لكن لأن القليل دال على الكثير ولكي تثبت الأمثلة في الأذهان، ويسهل حفظها، والاستشهاد بها في الظرف المناسب، ولا تتبخر سريعا..
أولا: في الدين
تقول النائحة الصعيدية على الميِّت الشاب بينما تعدِّدُه (عدَّدَ الميِّت تعديدا: عدَّ مناقبه وصفاته) تقول:
“لو كان لي سلِّم
كنت أطلع فوق
ع اللي عملته
يا قليل الذّوق”
تعديد بالغ الإساءة بلا ريب، وراءه ما وراءه من الحزن العظيم على الشاب الذي خطفه القدر خطفا قبل أن ينال نصيبا معقولا من الحياة في نظر الجميع، وفجَّع أبواه وأهله تفجيعا، نعم لكن يظل التعديد فاجرا وليس مبررا بصيغته وألفاظه، وقد يتشدد متشدد في الدين فيرى قائلته كافرة ويرى اللواتي يرددن خلفها ما تقول كافرات بل كل من يذكرون مثل هذا، كما أفعل الآن، كفارا لا محالة.. وهذا هو التزيد الذي لا نحبه، فما علينا إلا النظر بموضوعية في النص، بعد رصده، بعيدا عن الأحكام على الناس.. إن التعديد بالرغم من سوئه يعكس شيئين مهمين للغاية، أولهما أن الحزن كالسُّكر قد يفقد الناس صوابهم مطلقا في أثنائه، لكن لا يجب محاسبتهم عما ارتكبوه في ساعته لأنهم كانوا تحت ضغطه، والثاني أن التعديد بجرأته الرهيبة هكذا يشكك في “يمينية الصعيد” المزعومة- أعني تحفظه وتقليديته، ومن ثم يفتح الباب من جديد لمناقشة ذلك الزعم القديم الراسخ!
https://www.youtube.com/watch?v=iKfrR5IPi1w
ثانيا: في الجنس
في أغاني الأفراح القديمة في الصعيد الجنوبي، وقد شهدت مثل ذلك بنفسي وأنا صغير في مدينتي قنا، في ليلة الحنة بالذات، وهي الليلة السابقة لليلة الدخلة، كانت النساء تجتمع في بيت أبي العروس لتجهيزها للزواج، كن يعتنين بجسدها في تلك الليلة عناية خاصة مفهومة، كي تقابل عريسها بعد ذلك في أنظف صورة وأبهى صورة، وضمن ذلك وضع الحناء في يديها وقدميها، لكنهن أيضا كن يغلقن الأبواب عليهن بإحكام، طاردين الصبية بعيدا عن غرفهن، في أثناء تحمية العروس وتعطيرها ووضع الحناء بيديها وقدميها ويغنين بعض الأغاني كالأغنية الشهيرة “يا اللي ع الترعة حود ع المالح”، وهي للأمانة مشهورة في مناطق أخرى بمصر، غير أن كل منطقة تنطقها بطريقتها، وسيدات الجنوب وبناته كن يقلن في بعض مقاطعها:
بُقِّي بيوجعني
من إيه؟
بُقِّي بيوجعني من بوس امبارح!
صدري بيوجعني
من إيه؟
صدري بيوجعني من لعب امبارح؟
لا يقف الأمر عند الفم والصدر، لكن ينسحب إلى الأعضاء الجسدية كلها باللفظ المباشر الصريح، مع الأفعال المناسبة لكل لفظ طبعا، وتأخذ الألفاظ في الانحدار حتى كأنهن ضائعات أو بنات شوارع، وهن من أكرم الناس وأحسنهم، وأما الأولاد المتلصصون والرجال الذين يستقبلون الرجال المهنئين خارج الدور، فيضحكون بشدة إذا بلغهم صخب أصوات النساء وضحكاتهن العالية، وقد ينصح النساء ناصح رزين بالهدوء وخفض أصواتهن، لا تفسير لذلك سوى أن السرور الطاغي كالحزن الطاغي؛ كلاهما يخرجان النساء الراقيات الوقورات عن رقيهن ووقارهن، ولا بأس بالأمر في جميع الأحوال فهي ليلة في العمر، كما يقال، ولا يجب النظر لما هو أبعد من ذلك، ولا يصح الانتقاد الحاد الجارح!
ثالثا: في السياسة
قلنا إنها المجال الوحيد الذي يتكئ القوالون فيه دائما على الرموز، ويتعمدون قوله كما لو كان لغيرهم لا لهم، مخافة الملاحقة والعقاب، لكن لا ينفي ذلك أن بعض ما قالوه كان مباشرا خاليا من الرمزية، وقالوه بضمير المتكلم لا الغائب أيضا، ربما من فرط الإحساس بالقهر في حينه.. قال الرَّجل القوَّال:
“قالولي روح للكبير
قلت الكبير الله
وبلدنا وقعت في بير
ولا ليها خير في ابن جاه”
هكذا بوضوح وبلا مواربة، الكبير ليس الحاكم، إنما الراعي الذي في السماء، والبلاد في مشكلات ومآزق، ليس حلها في أيدي الملوك السلاطين والكبار مُلَّاك مقاليد الأمور، ربما في أيدي الناس، فالشعر، في عمقه، تحريضي للعوام على الثورة والخلاص من الطبقة الحاكمة الفاسدة المستبدة في ذلك الوقت الذي قيل فيه، وهو من الأشعار التي انطلقت وأفلتت من الرقابة ووصلت إلينا، لكن لم يتم تداولها بكثافة عبر الأزمنة لأنها عرضة لغضب السياسيين العتاة بدون ريب.
https://www.youtube.com/watch?v=8S1scVH3H4A
زبدة القول
لم أكن أحب أن تكون أمتي من الأمم التي وارت بعض فلكلورها لأي سبب، حتى لو كانت هي نقيضه القيمي بمعنى ما، وليست كذلك للحقيقة، كنت أحب أن تكون الأمة أصدق وأبسط؛ فلا تواري شيئا جرى أو قيل مهما كانت تخاصم ألفاظه أو معانيه؛ لأن التاريخ عبارة عن حلقات متتالية ملتئمة، ومن الخطأ الفادح أن نطمس حلقة من الحلقات أو نمحوها لأنها لا تروق الأمة أو بعض طبقاتها، بل الصحيح أن نبرزها ونخضعها للقراءة الموضوعية، ونعرِّف أنفسنا بها أكثر، ونصل فيها إلى نتيجة ما، ولو لم نفعل مثل ذلك وأصررنا على الحرق والشطب والمحو؛ فإن تاريخا جديدا مكتملا سوف يكتبه آخرون لاحقا، لن يذكر أجيالنا بخير، ولو كانت توهمت أنها فعلت الخير كله!