ثقافة

قبس من سيرة النبيل.. «نبيل عبد الفتاح»

كثيرون يعرفون الجانب الوظيفي للدكتور نبيل عبد الفتاح؛ فالرجل ملء السمع والبصر في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وقد كان رئيسا للمركز في عام 2009، ومن قبله كان يشغل منصب مساعد مدير المركز الشهير.. بالأساس هو صحفي في جريدة الأهرام العريقة ومختص في شؤون الجماعات الإسلامية ورئيس تقرير الحالة الدينية في مصر. برز الدكتور نبيل، بحكم تخصصه، في السنوات الأخيرة التي شهدت بدورها بروزا للتيارات الدينية المتشددة في مصر والعالم، وقد أجلى عنه هذا البروز كثيرا من الغموض المحيط بشخصيته، الغموض غير المقصود في الحقيقة، فكل ما هنالك أن الرجل قليل الظهور مع قيمته الكبيرة في مجاله وفي المجال الثقافي بصورة عامة، ولا يجيد الحديث عن نفسه ولا حياته، بل ينأى بحياته عن العمل ولا يقع في هذا الخلط المشين الذي يقع فيه مثقفون كثيرون يزجون بسيرهم الشخصية في أعمالهم ليصيروا نجوما بمعنى ما!

وُلِد الدكتور نبيل عبد الفتاح في القاهرة في 24 فبراير عام 1952، ونشأ فيها وتعلم في مدارسها، حصل على ليسانس الحقوق من جامعتها في عام 1974، يعتز اعتزازا خاصا بمرحلته التعليمية في فرنسا حيث حصل على رسالة الماجستير في صراع الحضارات في عام 1984، وفي صفحته بالسوشيال ميديا، الزاخرة بالآراء العبقرية التي تصنع كتبا بالغة الأهمية في نطاق المدنية والحرية والتسامح واحترام الأديان والمعتقدات وقيم الحق والخير والجمال، وتزخر باختياراته الشخصية بالغة الرقي والندرة والعذوبة؛ يظهر هذا الاعتزاز بوضوح فليس ثمة معلومات في نطاق التعليم سوى أنه «درس «تاريخ معاصر» تحت إشراف دومينيك شيفاليه» الذي يبدو أنه يبجِّله. ويجدر بالذكر أن لدومينيك كتابين ذائعين هما «حبر الشرق.. بين الحروب وصراع السلطة» وكتاب «العرب والإسلام وأوروبا» بمشاركة مؤلفين آخرين.

كتب قيِّمة

للدكتور نبيل عدة كتب منها: المصحف والسيف، سياسات الأديان، الحرية المراوغة، النص والرصاص، النخبة والثورة، الدين والدولة والطائفية «مساهمة في نقد الخطاب المزدوج»، تجديد الفكر الديني، وباللغة الإنجليزية: العنف المحجوب. وعدة كتب أخرى.. هذا بخلاف مئات المقالات المتميزة والتقارير الدينية والأعمال الصحفية المعتبرة المقدرة.. وإن جملة الرؤى والتصورات التي طرحها في الندوات المتخصصة والمؤتمرات السياسية والثقافية العديدة التي دُعِي إليها في الداخل والخارج، محاضرا أو محاورا، لهى مراجع للباحثين في أبوابها، أعني جديرة بأن تكون كذلك.

رأي مهم في الدستور

يهتم نبيل عبد الفتاح اهتماما بالغا بالدستور، ولا عجب في الأمر، فالدستور هو «الوثيقة الرسمية التي تحتوي على القانون الأساسي الأعلى للدولة والذي يحدد شكل تلك الدولة وطبيعة نظام الحكم فيها وطبيعة حكومتها». قال الدكتور نبيل عبد الفتاح مرات كثيرة بشأن الدستور المصري بالذات: إن دستور 71 يعطى صلاحيات «شبه إلهية» للرئيس، ويستبيح الحريات العامة والخاصة.. وفي أوان النقاش الدستوري الذي نشب في أعقاب الأحداث الثورية، اقترح تشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد، على غرار ما حدث في كل دساتير مصر منذ 1923. ومن مقولاته الشائعة بهذا الشأن: المؤسف أن الدساتير المصرية لم توضع على مقاس الشعب وتاريخه، بل على مقاس حكامه الطغاة، الذين تصوروا أنفسهم فوق الأمة!

المثقف الموسوعي

يملك الدكتور نبيل عبد الفتاح ثقافة موسوعية قلما يملكها غيره، يملكها بأداء راق متزن، ثقافة تتجاوز تماما دراسته ونطاقه متصلة بشتى المعارف والعلوم، وليس بالمثقف الذي يحفظ وينقل ويردد الكلام على عواهنه، لكنه أنموذج المثقف الثقيل الذي له رؤاه وتصوراته فيما حصله من القراءات الكثيفة المنوعة عبر التاريخ الشخصي، ويتسم بالجدل المثمر والمغايرة، والقدرة على الوصول إلى الأعماق بسلاسة، وعلى إيصال أفكاره لمن حوله بيسر مهما كانت متشابكة ومعقدة.. خطفه التركيز في مجاله من الكتابة والتننظير في المجالات الأخرى، ولو كان تفرغ شيئا قليلا لأثرى المكتبة العربية في كل مجال. يزينه التواضع أيضا فليس بمتكبر بما لديه، وهو كثير كثير.

دور إيجابي

لا يعلم العدد الأكبر من بين المهتمين بالفنون والآداب في بلادنا أن الدكتور نبيل متابع نابه لدنيا الفن والأدب ومشجع عظيم للطاقات الفنية والأدبية الجديدة، يقطع من وقته لهذه المتابعة ما يقطعه راضيا مسرورا، وينزل في وسط المدينة، وغيرها، حين ينزل متلمسا صوتا مختلفا في التمثيل أو الغناء أو الكتابة الشعرية والقصصية، يفرح فرحة طاغية لو عثر على مثل هذا الصوت، ويصاحبه فورا بصرف النظر عن اختلاف الأعمار، ويحاوره، ويقوي عزائمه، لا يتعمد النصح والتوجيه، فكم يمقت الوصاية، لكن يقدر على إشعاره بما يود أن يشعره به، يفعل مثل هذا على الدوام بصدق كبير؛ لأنه يحب هذا البلد ويؤمن بعبقرية أبنائه ويتمنى أن تكون الأجيال التالية مؤسسة على قدر وافر من الوعي والرحابة، هذان اللذان تأسست عليهما أجيال صنعت مجدا منفردا قاوم الضحالة والجهالة والغرق في أوحال الظلمات، حين حددت أهدافها واختارت مساراتها وقررت ألا تكون من ضمن القطيع التقليدي البائس الذي لا يُرجى نفعه ولا يُؤبه له في التقييم الحضاري لمسيرات الشعوب. إن ضالته هي في الموهوبين المختلفين المتمردين الذين يحبون التغيير والتجديد ولا يطمئنون إلى الثوابت ولا يبالون بمن يحاربون الأمل فلديهم حصاناتهم التفاؤلية ولديهم شجاعة المواجهة ولا تنقصهم الثقة البتة!.

د. نبيل عبد الفتاح

التكريم الغائب

شخص نبيل كنبيل عبد الفتاح، كان يجب أن يكون في الصفوف الأولى من المكرمين المعترف بجميلهم على الثقافة والمثقفين، صحيح هو كذلك من الجهة الوظيفية، إلا أنني أقصد المعنى الأشمل والأعم، أقصد تقديمه لعموم الناس لأن تخصصه الدقيق مما قد لا يوجه الأنظار إليه مجتمعة، والمطلوب أن يعرفه الجميع كرمز تقدمي واستناري ليمتاحوا من أنهاره متعددة المنابع ثرية الروافد، المطلوب أن يكون مثله قدوة في زمن تراجع مَدَدُه وغابت فيه القدوات، أن يتوسع الإعلام، بكافة وسائله، في استضافته والتعريف به والإحاطة بمشواره شديد الغنى، وأن يسلط الضوء على جوانب أخرى من رحلته، ومن شخصه البسيط الدمث الكبير قيمة وقامة.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock