بقلم: أحمد السيد الصاوي، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
تابعت على مدار الأسابيع القليلة الماضية ما حفلت به صفحات وسائل التواصل الاجتماعي من انتقاد لمسلسل “أحمس” وقد طال النقد أمورا كثيرة موزعة ما بين اختيار الممثلين ومظهرهم وملابسهم وبين اختيار رواية كفاح طيبة لأديبنا الراحل نجيب محفوظ كأساس لمادة العمل وانتهاء بالهجوم على المؤلف بل وأسرته بكاملها.
بالطبع لم أتدخل شخصيا بالكتابة في هذا الأمر لاعتبارين:-
أولهما أنني لست على اطلاع مباشر على فحوى وكواليس المسلسل ولا يصح أن أبني وجهة نظري على معلومات متداولة في الفيسبوك.
والاعتبار الثاني هو بعد تخصصي العلمي عن مجال الآثار والحضارة المصرية القديمة لاسيما وأن جمهرة من أعرفهم من علماء الآثار المصرية احجموا عن الخوض في أمر هذا المسلسل سواء ترفعا بعلمهم عن “مرمطة” الفيسبوك أو لبعد مجال تخصصهم الدقيق عن الفترة التي يتناولها المسلسل.
ومهما يكن من أمر فنحن أمام “حدث” ليس له سابقة فيما أعلم وهو إيقاف إنتاج أو عرض عمل درامي بناء على “ضغوط” رواد مواقع التواصل الاجتماعي وليس وفقا لقرار جهة رقابية على المصنفات الفنية.
وهذا تحول هام فرضته طبيعة عالم ما بعد العولمة حيث تتراجع قوة الحكومات أمام فعالية الرأي العام بدرجة أو بأخرى.
وبعد أن كان صناع الأعمال الدرامية يهاجمون تدخل الرقابة إذا بهم يوجهون ذلك الهجوم لرواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين مارسوا ضغطا كثيفا على مراكز اتخاذ القرار.
وربما يكون من المفيد أن أسهم الان في الحوار المجتمعي الذي يدور الان حول “خطورة” تقييد حرية الإبداع الفني بحقائق التاريخ لاسيما أن هناك أعمال معتبرة وناجحة لم تلتزم بحقائق تاريخية بل أنها ابتدعت تاريخا ووقائع تلائم رؤية من قاموا بتأليفها وتصويرها والمثال الأشهر بالطبع هو فيلم الناصر صلاح الدين.
أول ما ينبغي أن أشير إليه هنا أن الزمان قد تغير وما كان مقبولا من قبل لم يعد كذلك والاحتجاج بالسوابق لن يكون منطقيا في صياغة اللواحق فالتغيرات تفرض نفسها دوما.
وأضيف لذلك أن الدور المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعي قد جعل منها جماعة ضغط كبرى وفريدة من نوعها ليس فقط على القرار السياسي بل وعلى كل مناحي الحياة بما في ذلك الأعمال الفنية كلها.
نحن إزاء جماعة ضغط متناقضة المصالح و متباينة المشارب السياسية والانتماءات الاجتماعية والمعارف العامة ولكنها رغم ذلك كله تبدو فعالة بشكل طردي ولا يمكن إغفال ذلك أو حتى الدعوى لتجاهله.
فضلا عن أنه ومنذ ما قبل العولمة ثمة فوارق بين نظرة النقاد للأفلام (العرض الواحد) ونظرتهم للأعمال الدرامية التي تعتمد كليا أو جزئيا على المادة التاريخية.
فقبول أو تفهم ما يحدث في الأفلام من تسييد لرؤية المبدعين على غيرها من اعتبارات الحقائق التاريخية ينتهي كليا عند توجيه النقد لأعمال الدراما التاريخية ولذلك يندر أن نجد مسلسلا تاريخيا لم يحظ بمراجعين اثنين أحدهما للمراجعة التاريخية والثاني للمراجعة اللغوية.
فالقول بأن ما جرى هو تقييد لحرية الإبداع هو قول غير دقيق فيما يتصل بأعمال الدراما التاريخية.
ولابد أن أضيف هنا، وذلك من إنجازات الدراما المصرية، أن سقف التوقعات الجماهيرية راح يرتفع على وقع أعمال عظيمة كانت أرضيتها وقائع التاريخ مثل بوابة الحلوانى وهارون الرشيد ومسلسل المنصور بن أبي عامر ومن ثم لم يعد مقبولا تجاهل هذا السقف اي سقف مراعاة الحقائق والوقائع.
https://www.youtube.com/watch?v=Ar2IE8Db8NA
وإحقاقا للحق فإن الدراما السورية التاريخية لم تنزل بهذا السقف بل زادته ارتفاعا بالتزام يكاد يكون حديديا بالمادة التاريخية ناهيك عن العناية بالديكورات والملابس ومشاهد الحركة للمجاميع ولو بتكلفة مادية كبيرة.
وأضف لذلك أنه في العقود الثلاثة الأخيرة أصبح الاعتماد “فجا ومباشرا” على الأعمال الفنية لبث الدعاية السياسية والتأثير على الرأي العام وفرض “الصور” التاريخية على المشاهدين من أجل تهيئة المناخ السياسي لتقبل افكار ورؤى سياسية.
واقرب مثال للدلالة على ذلك حملة “التتريك” التي قادتها مسلسلات تركية عن سلاطين ال عثمان وزوجات البلاط بل وعن أرطغرل (السلجوقي وليس العثماني) وهو أمر لم تكن دوافعه خفية لا عن” الحكومات” ولا عن “المبدعين” ولا حتى عن “المشاهدين” وكل ما سبق يفسر الترحيب الكبير الذي لقيه مسلسل ممالك النار من كل هؤلاء باعتباره رد بذات “السلاح” أي الدراما التاريخية على محاولات التطويع التركي للرأي العام المصري والعربي.
ومما يجب الإشارة إليه هنا في “حرب الفيسبوك” على مسلسل أحمس أن الطبقة الوسطى رغم تراجع نصيبها من الدخل الوطني إلا أنها عظمت من دورها في توجيه الرأي العام والتأثير على القرار الرسمي والمجال العام عبر اسهاماتها الكثيفة في تحرير محتوى وسائل التواصل الاجتماعي بما تملكه من تنوع واسع للتخصصات العلمية ومجالات الاهتمام.
فنحن بالفعل أمام “قوة” جديدة تكاد تهمش دور النقاد الفنيين في الصحف بل هي تستبق أقلامهم بحكم ان الأعمال الدرامية تستبق موعد عرضها بدعاية تتضمن صورا للأبطال أو مشاهد جذابة للمشاهدين.
ويتبقى في النهاية رأيي الشخصي فيما يتصل بمسلسل أحمس وهو محض رأي خاص بي كمشاهد لا أرى انه من الصواب عند إنتاج مسلسل درامي عن شخصية تاريخية ثرية وهامة مثل أحمس وعن فترة تاريخية عصيبة خاضت فيها مصر صراعا ضد الهكسوس أن ألجأ لرواية أدبية لتكون مرجعا تاريخيا ففي ذلك ظلم لنجيب محفوظ الذي ألفها كرواية وللتاريخ نفسه الذي باتت وقائعه معروفة بيقين أكبر بعد دراسات أكاديمية معتبرة عربية وأجنبية.
اعتدنا من كتاب أعمال الدراما ذات الطابع التاريخي أن يعتمدوا على “كتب” ودراسات وهو أمر عاينته وناقشته وعرفته مع الراحل الكبير محفوظ عبد الرحمن سواء في بوابة الحلواني أو ناصر ٥٦ أو حتى في مسلسل أم كلثوم ناهيك عن رائعته الخالدة ليلة سقوط غرناطة (المسلسل المحجوب بمصر لليوم) لابد أن يكون كاتب هذا النوع من الأعمال الدرامية باحثا مدققا بقدر كونه أديبا مبدعا
هذا الاستسهال والتسرع في صياغة المادة الدرامية كان من الطبيعي أن تلحق به أمور يراها كثر أنها مجافية للحقائق التاريخية بما في ذلك اختيار الممثلين وملابسهم ومظهرهم طالما غاب التحقيق التاريخي للمادة من قبل الكاتب وفيما آظن اختفاء المراجعة التاريخية من متخصص أو أكثر.
الأعمال الدرامية التاريخية تتعرض لجزء من الموروث العام ومع الحساسية المتزايدة من التوظيف السياسي لتلك الأعمال وتنامي دور المواطنين في تحرير محتوى وسائل التواصل الاجتماعي ينبغي على صناع الدراما الاهتمام أكثر بأعمالهم خاصة إذا كان الإنفاق عليها من المال العام فما تم إنفاقه لن يكون سيفا مسلطا على أي قرار بمنع العرض ففي كل الحالات هناك خسارة مالية ولكنها ستكون مضاعفة عند عرض عمل يجافي الاعتبارات الموضوعية لأننا ببساطة سنكون أنفقنا مالا للإضرار بالمجتمع وزيادة سخط قطاعات مؤثرة فيه.