رؤى

المصريون بين “الأنا” و”النحن”

“ما فيش أنا٫ فيه احنا يا صاحبي”

يأتيني صوت عبد الحليم حافظ عبر الأثير متغيناً بال”مسؤولية” ومعبراً – لا عن موقفه الشخصي فحسب كمطرب طالما التزم بقضايا وطنه وامته – وانما عن روح عصر بأكمله كانت “نحن” فيه بمعنى الوطن بأسره مقدمه على “الأنا” الضيقة والضيقه للغايه.

اكاد اجزم ان اي انجاز حضاري انجزناه نحن معشر المصريين على مدار تاريخ هذا الوطن الطويل الممتد لآلاف السنين لم يكن سوى لحظات توارت فيها الأنا وبرزت فيها روح جماعية شاملة لا تفرق بين فرد وآخر.

ثورة 19 والهوية المصرية

لم تكن ثورة عام ١٩١٩ على سبيل المثال لا الحصر سوى لحظة  برزت فيها تلك “ال نحن” وكانت نحن فيها تعني كافة المصريين : مسلمين واقباطاً٫ فلاحين وعمالاً وافندية٫ رجالاً وسيدات٫ وانصهر الجميع في بوتقة واحدة هي بوتقة الدفاع عن الوطن والذود عنه ضد محتل غاصب والمناداة بحريته واستقلاله وان كلف ذلك الحياة نفسها٫ موقف لخصه ضمير شعبنا في هتاف لازال محفوظاً في الذاكرة الجمعية : “الاستقلال التام او الموت الزؤام” والزؤام هنا بمعنى الموت السريع.

ثورة 1919
ثورة 1919

ويشير الكاتب والمؤرخ الراحل المستشار طارق البشري الى هذه الروح الجماعية حين يؤكد في أكثر من كتاب له أن ١٩١٩ جاءت لتؤكد على الهوية الوطنية الجامعة للمصريين ولتتجاوز ما سبقها من سنوات من التحريض الطائفي لاسيما  عقب اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي نيروز٫ بل أن بعض دعاة الطائفية في سنوات ما قبل الثورة تحولوا الى خطباء في ميدان الثورة العظيمة  مؤكدين على اللُحمة الوطنية بين عناصر الشعب المختلفة.

إلا أن “أنا” اضاعت ما انجزناه “نحن”٫ فالحزبية الضيقة التي شاعت في أعقاب ثورة ١٩١٩ كان من شأنها أن تسرق انجاز شعبنا وتضيعه في متاهات التفاوض٫ حتى حانت لحظة اخرى من لحظات  “نحن” مع إلغاء القيادة الوفدية لمعاهدة عام ١٩٣٦ وانطلاق العمل الفدائي ضد المحتل الإنجليزي في قواعده في منطقة قناة السويس.

السد العالي وملحمة العبور

عادت “نحن” بقوة من خلال أعمال الفدائيين البطولية ومن خلال مقاطعة العمال بمختلف فئاتهم للعمل في معسكرات الإنجليز ورفض التجار التعامل مع المحتل وغيرها من مظاهر التضامن.

النضال ضد الاستعمار
النضال ضد الاستعمار

هذه “ال نحن” الجماعية هي التي ظلت سائدة في كافة الاختبارات التي فُرضت على مصر فرضاً بداية من عدوان عام ١٩٥٦ ثم ملحمة بناء السد العالي الذي كان هو الاخر احدى تجليات “نحن” ثم عدوان عام ١٩٦٧ الذي لم يزد المصريين سوى التحاماً ثم سنوات حرب الاستنزاف وخاصة في معركة بناء حائط الصواريخ الذي لم يعرف من بنوه اي فارق بين مدني وعسكري بل امتزجت دماء الجميع حتى اكتملت مظلة مصر الصاروخية التي تحمي سماءها ووصلت “نحن” إلى ذروتها في معركة العبور عام ١٩٧٣ إذ لم يعبر جيش مصر فحسب وانما عبرت معه الأمة باسرها٫ ليعود صوت عبد الحليم الشجي يتغنى بنحن الجامعة المنتصرة قائلاً “عاشوا العرب٫ اللي في ليلة أصبحوا ملايين تحارب”.

 انكسارات الأنا وانتصارات ال”نحن”

 الا انه وفي اعقاب  نصر اكتوبر و كنتيجة لتغيرات عدة٫ تراجعت نحن مرة أخرى وباتت “الأنا” هي النغمة السائدة٫ بات الخلاص والنجاح الفردي هو المُراد لا خلاص الوطن ككل٫ وتجلى ذلك في مظاهر عدة لعل أبرزها نزوح الالاف من المصريين الى دول النفط العربي وتخلي الفلاح المصري لاول مرة منذ آلاف السنين عن أرضه.

باتت “نحن” مقتصرة على مظاهر احتفالية كرنفالية لا أكثر مثل الاحتفال بفوز المنتخب الكروي المصري ببطولة ما٫ لكنها وعلى مدار ثلاثين عاماً كامله لم تتجاوز ذلك الى مشروع جماعي شامل.

ثم اتت انتفاضة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ لتعود معها نحن الى ساحات وميادين مصر٫ في تلك الميادين كان لا مكان لل”انا” ولا للمجد الفردي٫ فالمجد هنا للجماهير الملتحمة من أجل هدف وحلم مشترك وهو ما تحقق بالفعل في الحادي عشر من فبراير عام ٢٠١١ بزوال حكم جثم على صدر المصريين لثلاثة عقود.

ثورة 25 يناير
25 يناير

الا ان “انا” ابت الا ان تفسد ذلك المشهد البديع٫ فكانت الانانيه آفة صغار السن٫ في حين كانت الحزبية آفة الكبار٫ وتفرقت الجماهير لأسباب طائفية وحزبية واستحدث البعض أكذوبة “الانقسام الجيلي” لتصبح “نحن” اثراً بعد عين.

اتذكر هذا الانقسام بين “أنا” و”نحن” وانا اتابع احداثاً بعينها مرت في الفترة الماضية٫ فبفضل “نحن” استطاع العمال المصريون انقاذ قناة السويس وتعويم السفينة التي جنحت فيها موقفة حركة الملاحة لنحو ستة أيام٫ وبفضل “نحن” ايضاً شهد العالم أجمع على شاشات التلفزة مشهداً حضارياَ بديعاً تمثل في موكب نقل المومياوات الملكية إلى متحفها الجديد..والآن تبدو “ال نحن” واضحة وجلية في هذا الاصطفاف الكامل وهذا الموقف الجمعي و الجامع لكل المصريين  في مواجهة أزمة سد النهضة  التي  وحدت  المصريين جميعا  على قلب رجل واحد .

اننا معشر المصريين قادرون تماماً كما بدا في كافة هذه الأحداث على الإبداع والابتكار والتنظيم٫ إذا ما توارت “انا” وانصهرنا جميعاً في بوتقة “نحن” وتوافرت المنظومة التي تدفع ب”نحن” إلى الأمام.

تعويم السفينة الجانحة
تعويم السفينة الجانحة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock