في أوائل الستينات كان “مصطفى محرم” طالب الآداب بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة- يغرق حتى أذنيه في قراءات متنوعة باللغتين العربية والإنجليزية، ويحتفظ بدهشة متجددة تتعلق باكتشافاته المبكرة للمذاهب الأدبية والنقدية.. وقد أتاحت له تلك القراءات المعمقة امتلاك منهج نقدي ذي رؤية واضحة وأدوات قاطعة؛ لكن “محرم” كان قد حدد طريقه مبكرا متطلعا للعمل “…مخرجا بالتليفزيون أو أديبا مثل توفيق الحكيم” وربما حرمنا هذا الاختيار المبكر من ناقد أدبي فذ كنا في أمسِّ الحاجة إلى إنتاجه.
لم يكن “مصطفى محرم” ليترك مناسبة للثناء على توفيق الحكيم إلا واستغلها.. فهو مَعِيْنُه الأول ومشربه الصافي الذي حكم كثيرا من رؤاه الفكرية والأدبية بعد ذلك.. أثّر ذلك بشكل كبير على تعاطيه مع أدب “محفوظ” الذي كان قد أنجز ثلاثيته التاريخية (عبث الأقدار- رادوبيس- كفاح طيبة) وقد غلبت عين الناقد لدي “محرم” على شغف المتلقي فَتَاهَ في غابة المقارنات بين روايات “جورجي زيدان” التاريخية وأعمال ” محمد فريد أبو حديد و”على أحمد باكثير” و”محمد سعيد العريان” التي بهرته.. وكذلك إعجابه بما كتبه الإنجليزي “سير رايدار هيجارد” من روايات رومانسية تاريخية وأيضا أعمال “والتر سكوت”.. لكن الفتى لا يبتعد كثيرا عن الحكيم عندما يريد إصدار حكم نهائي فلا يرى ما يمكن مقارنته بأعمال مثل: “أهل الكهف” “وشهر زاد” و”عودة الروح” و”السلطان الحائر”.
ورغم استغراقه مبكرا في قراءات متنوعة إلا انه لا ينسى فضل الثقافة السمعية عليه.. فقد كان حريصا على الإنصات إلى البرنامج الإذاعي “حديث الاربعاء” لينتشي ويطرب بصوت عميد الأدب العربي.. وكذلك أحاديث تلميذة العميد النجيبة د. سهير القلماوي في الأدب والفكر.. لكنه لا ينفي ما أحدثه حديث العقاد وكذلك حديث د. عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ” من أثر سيئ في نفسه بسبب لهجتهما الآمرة في الخطاب ما جعله ينصرف عن الاستماع إليهما بالكلية.
في امتحان الليسانس الذي جعله د. رشاد رشدي رئيس القسم، شفويا في ست مواد لأسباب تتعلق بطريقته في اختيار المعيدين؛ يقرر الشاب النابه أن يجيب برأيه وليس بما جاء في المقرر الدراسي، وكانت مادة الشعر الرومانتيكي هي ميدان المناظرة التي جرت بينه وأستاذ المادة د. أمين روفائيل الذي لم يكن “مصطفى” يحمل لأسلوبه تقديرا كبيرا إذ كان يشرح المادة مثل” مدرس لغة عربية أزهري أو درعمي” ورغم أن د. روفائيل أعاد السؤال أكثر من مرة ليحصل على الإجابة التي يريدها إلا أن “محرم” أصر على إجابته في تحد واضح معرضا نفسه للرسوب في المادة.. لكن الدرجة الكاملة التي منحه إياها د. رشدي في امتحان الشعر الحديث حال دون رسوبه في مادة الشعر.
لكن ما حدث في هذا الامتحان كان حاسما في استبعاد هذا القسم من اختيارات “محرم” لاستكمال دراساته العليا، وكان اختياره الأول قسم الفلسفة وعلم النفس الذي تمتع فيه بحرية كاملة في النقاش مع أساتذة القسم العظام، وكان معظمهم ممن درس في “كمبريدج” و”أكسفورد” و”السوربون وغيرها من أكبر جامعات أوروبا.
تبدأ رحلة العمل في شركة “فيلمنتاج” في قسم قراءة الأعمال الأدبية المرشحة للإنتاج السينمائي.. كانت “فيلمنتاج” تابعة للمؤسسة العامة للسينما.. وكان على رأس الشركة “صلاح أبو سيف” الذي لم يكن قد قرر التفرغ بشكل كامل للإخراج السينمائي.. في تلك الفترة التي اختلطت فيها الرؤى لدى “محرم” بسبب تأخر إدراكه لعدم مناسبته لقيود الوظيفة العمومية. أثناء ذلك حاول “مصطفى” كتابة السيناريو والمعالجة السينمائية لأكثر من عمل أدبي لكن تلك المحاولات لم تر النور.
لم تكن مساحة الاتفاق كبيرة بينه وبين أبو سيف مع اعترافه بفضله وأستاذتيه.. كان الأستاذ يضيق كثيرا بآراء تلميذه خاصة فيما يتعلق بالرؤية السينمائية وضوابطها الإبداعية، وكان خلافهما الأكبر حول المونولوج الداخلي في السينما الذي يراه أبو سيف وسيلة مقبولة للكشف عن كوامن الشخصية بينما كان “مصطفى” يرى فيه حيلة لفظية ليس إلا ولا يمكن أن يرقى لكونه أداة سينمائية أصيلة كالاعتماد على الحدث الذي يصنع الصورة السينمائية التي يريد كاتب السيناريو المتميز التعبير بها عن رؤيته.
لم يستمر “صلاح أبو سيف” طويلا في منصبه وقرر الاستقالة والاتجاه إلى عالم الإخراج السينمائي.. وربما حملت استقالة “أبو سيف” من رئاسة الشركة وتولي “سعد الدين وهبة” مكانه، لـ”مصطفى” إشارة إلى وجوب التحول نحو الكتابة بشكل عاجل خاصة بعد تجاهل وهبة لـ “محرم” وزميله رأفت الميهي وعدم تكليفهما بأي عمل كرد على رفض أعماله من قبلهما في لجنة القراءة نظرا لرداءتها حيث كانت أشبه ما يكون بـ “الفوتو مونتاج” حسب تعبير “محرم”.
لم تطل فترة عمل “محرم” و”الميهي” تحت رئاسة “وهبة” إذ حدث الانفصال بين الإذاعة والتليفزيون والهندسة الإذاعية وبين “المؤسسة المصرية للسينما والمسرح والموسيقى” وأصبحت المؤسسة الأولى تابعة لوزارة الإرشاد، أما الثانية فقد أصبحت تابعة لوزارة الثقافة، وانتقل الصديقان للعمل بمؤسسة السينما التي كان يرأسها آنذاك “نجيب محفوظ”.
كان “محرم” قد بدأ طريق الكتابة الإبداعية وكتب بعض السيناريوهات المتميزة، وربما كان هذا سببا في حقد بعض المتسلقين من موظفي مؤسسة السينما عليه وعلى “الميهي” كما سيبين “مصطفى” بعد ذلك عندما يروي تفاصيل لقائه الأول بأديب نوبل.. الذي كان يتولى إدارة مكتبه أحد هؤلاء المنتفعين.
إلى إدارة التخطيط والمتابعة التي كان يرأسها أ. جمال أمين تم توجيه محرم والميهي.. وبمرور الوقت يكتشف الصديقان أن العمل بهذه الإدارة يقتصر على رصد المعلومات التي تأتي من شركات الإنتاج التابعة للمؤسسة.. فيقرر الصديقان تقديم طلب نقل للعمل بشركة “كوبرو فيلم” التابعة للمؤسسة والمختصة بالإنتاج العالمي المشترك. وبعد الموافقة على الطلب فوجئ الصديقان بأن هذه الشركة غارقة في المشاكل كما أن ما تنتجه من أفلام بالغ السوء والرداءة، ويدور حول موضوعات تتعلق بالأساطير المصرية القديمة، وسرقة الآثار والدعارة.. وبالطبع فقد أسهمت هذه الأفلام في ضرب السياحة وإشاعة أجواء من الرعب حول الحياة في مصر.. ونتيجة لمحاولات الصديقين للإصلاح نشبت بينهما وبين رئيس الشركة عدة معارك تم فيها تبادل الشتائم والتشابك بالأيدي؛ انتهت بإبعادهما عن أي عمل مهم بالشركة وتكليفهما سويا بدفتر حضور وانصراف العاملين!.
سعى الصديقان لمقابلة رئيس المؤسسة لعرض الأمر عليه.. لم يكن “محرم” قد التقى “نجيب محفوظ” قبل هذا اليوم.. كان يراه كثيرا في طابور المصعد.. لكن لقاءه بمكتبه لم يكن بالأمر السهل.. بسبب مدير المكتب السابق ذكره.. لكن الصديقين استطاعا اقتناص موعد للقاء.. ورغم أن “محفوظ” قابلهما بالترحاب وبابتسامته المعروفة التي تضيء وجهه واستمع إليهما باهتمام بالغ دون أن يبدي تأثرا وبنظرات محايدة تماما إلا أنه فاجأهما بقوله “هذا هو حال العمل في الحكومة” ثم أضاف أن العمل الرسمي في مصر مُقسَّم إلى قسمين لا ثالث لهما: القسم الأول أعمال سكرتارية والقسم الثاني حسابات.. ومن يظن غير ذلك فهو واهم.. ثم ودعهما بنفس الابتسامة غير المبالية -بعد أن تركهما واقفين طوال اللقاء- وهما في حالة وجوم.
لم تنتقص تلك المقابلة الباردة من مكانة “محفوظ” عند “محرم” فقد رآه دائما كاتبا مبدعا وصاحب رؤية تأسيسية في الأدب العربي.. لم يقع فيما وقع فيه غيره من مزالق الاقتباس والسرقات الأدبية وإن بدا تأثره واضحا بمسرحية “برانديللو” “لذة الأمانة” عندما كتب رواية “القاهرة الجديدة” التي لم يفلح فيها في صنع حالة من التعاطف مع البطل ” القوَّاد” رغم تبريراته المتنوعة التي ساقها على امتداد صفحات الرواية؛ نظرا لاختلاف ثقافة المجتمع المصري عن نظيره الإيطالي.. أما الرواية البديعة المسماة بـ “الشارة القرمزية” للكاتب الأمريكي “ناثانييل هوثورن” فإن “نجيب محفوظ” لم ينكر أنه اقتبس منها روايته “حكاية بلا بداية ونهاية.. وفق ما ذكره “محرم”.
يبدو “مصطفى محرم” الناقد الأدبي المتمرس شديد الجرأة في أمر السرقات الأدبية التي لم يعلن أصحابها أنها أعمال مقتبسة، فنجده يحمل كثيرا على كتَّاب بعينهم مثل “إحسان عبد القدوس” وروايته “لا أنام” التي اعتبرها “محرم” سطو كامل على رواية “فرنسواز ساجان” الشهيرة “صباح الخير أيها الحزن”. أما قصة “الجرادة” لـ”تشيكوف” فهي أصل واضح لقصة يوسف إدريس التي صارت فيلما بعنوان “على ورق سوليفان” في نظر “مصطفى” أما “يوسف السباعي” فسرقاته الأدبية تجل عن الحصر حسب تعبير “محرم”.
في السينما قدم “مصطفى محرم” عددا كبيرا من الأعمال المتميزة بداية من “أغنية على الممر” “وليل وقضبان” وصولا إلى “أغنية الحب والموت” و”ولايزال التحقيق مستمر” و”الحب وحده لا يكفي” و”الأشجار تموت واقفة” و “أهل القمة” و”حتى لا يطير الدخان و”الراقصة والطبال” و”الموظفون في الأرض” و”السكاكيني” و”الجوع” و”الحب فوق هضبة الهرم” و”الهروب” بالإضافة إلى عدد كبير من الأعمال متوسطة المستوى والتي يمكن وصفها بالتجارية.
أما في مجال الدراما التليفزيونية فقد قدم الكاتب عددا من الأعمال المتميزة أشهرها مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”. ومسلسل “ريا وسكينه”. وقد غادر الكاتب المبدع عالمنا أول من أمس عن عمر ناهز الثانية والثمانين.. بعد مشوار طويل في عالم الفن والفكر والإبداع حفل بالمعارك والآراء الصادمة مثل موقفه من ثورة يوليو وزعيمها.. إلا أن ذلك لا ينفي قيمته الإبداعية الكبيرة، وأثره الواضح في الوجدان المصري بما قدمه من أعمال فنية متميزة.
https://www.youtube.com/watch?v=0N-75FL8cWc