ثقافة

ابن حزم لم يكن فقيها فقط بل عالم اجتماع أيضا

لم يحظ إسهام “ابن حزم” في مجالي العلوم التربوية والاجتماع؛ بما حظي به إسهامه في الفقه، وتأسيسه للمذهب الظاهري، وفي علوم الحديث، وردوده القاطعة على من قال بالقياس الفقهي، وكذلك إفحامه للشيعة واليهود والنصارى، وغُلاة الصوفية والخوارج.. لقد كان “ابن حزم” معنيا في المقام الأول بقضايا مجتمعه الذي عانى طويلا من الآثار السيئة للصراع المذهبي، كما كان “صاحب مشروع كامل لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي” كما تُعدُّ نظراته التربوية- المبثوثة في معظم مؤلفاته- نسقا واضحا ومنهجا متكاملا؛ ارتقى في نظر البعض لدرجة النظرية.

بسبب الحرب الأهلية التي أعقبت تأجج الخلاف المذهبي؛ اضطر “ابن حزم” إلى مغادرة “قُرطبة” والارتحال إلى غير موضع على امتداد بلاد الأندلس.. وكان هذا التجوال القسري وسيلة ناجعة في استبصار أحوال العباد، واستكناه المعضلات الكُبرى في المجتمع؛ فخَلُصَ فقيه المذهب الظاهري إلى أنه لا صلاح للمجتمع إلا بالتخلص من تلك الآفات المُدمّرة التي استولت عليه؛ وأن السبيل إلى ذلك لن يكون إلا بالعلم الذي يتأسس على الأخلاق، في مناخ من الحرية.. حرية التفكير وحرية التعبير، فالمسلم عند “ابن حزم” لا يجب أن يخضع لغير الله، ولا يصح أن يتقيد بقيد سوى ما يصدر عن مبدأ ديني أو خُلقي، كما أن السلطة الموجهة له يجب أن تكون داخلية لا خارجية.

ابن حزم

رفع الرجل المقدرة اللغوية إلى المكانة التي تستحقها؛ بوصفها السبيل إلى الفهم المستقيم لمدلولات الألفاظ، والإدراك القويم للمقاصد الإلهية، دون الرجوع إلى الآخرين، أو الحاجة إلى تأويل النصوص، بما يخرج بها عن معطياتها الظاهرة.. كما ذهب إلى أن النص المقدس لا غموض فيه ولا إلغاز، وهو لا يعطي معنىً مراوغا؛ وأن أداة فهم النص واحدة وهي اللغة، ومدلول النص ظاهر والإذعان له واجب، فكلام الله تعالى وأوامره وأخباره لا تختلف، والإجماع الذي يعوَّل عليه عند “ابن حزم” في الإتيان بالحق، هو إجماع الصحابة أما غير ذلك فلا يُعدُّ إجماعا لديه.

سائرا على دربه في تحرير إرادة الإنسان؛ يرفض “ابن حزم” كل ما يعتبر واسطةُ بين العبد وربه كـ “التوسّل” بالأولياء، كما أنكر الخوارق في غير عصر النبوّات، وقال بأن كل ذلك مناقض للتوحيد، ومُهدر لكرامة الإنسان ومضيِّع لحريته، كما أن تقديس الرجال ورفعهم إلى مراتب ليست لهم؛ هو تحقيق لصورة من صور استعباد العباد للطاغوت.

يذكر أن المذهب المالكي كان سائدا في الأندلس آنذاك؛ لكن “ابن حزم” انحاز للمذهب الشافعي وانتصر له وناضل من أجله، وتحمّل في سبيل ذلك أذىً كثيرا من فقهاء المالكية الذين اتهموه بشذوذ الفكر وانحراف المعتقد.. بعد فترة انحاز للفقه الظاهري الذي كان قد خَمُدَ ذكره في البلاد، واندثر أتباعه؛ فرأى “ابن حزم” إحياءه، والانتصار له والدفاع عنه وحمل رايته؛ حتى صار أبرز فقهاء الظاهرية، وتسمَّى تلاميذه بالحزمية.. لكن جهد الرجل لم يكن منصبا على الأمور الفقهية فقط، كما يظن البعض بل امتد إلى الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، ويعد كتابه “التقريب لحد المنطق” الذي كتبه بالعامية محاولة جادة وقيمة لاستحداث ما يمكن وصفه بالمنطق الإسلامي.

ابن حزم

ويرى فقيه “قُرطبة” أن العلم هو طريق الناس إلى اكتساب الفضائل، وهي ليست فضائل في ذاتها كما أن الرذائل ليست رذائل في ذاتها؛ لأن الله تعالى هو الذي حدّد الحسن والقبح في الأشياء، وهو الذي حدد المُثل العليا التي نقتدي بها في سلوكنا، فلا وجود لفضائل في ذاتها، أو رذائل في ذاتها.. ويصل الإنسان إلى الفضائل بطريقتين: الإلهام والعلم، والإلهام خاص بالأنبياء؛ لأن الله علّمهم الخير والفضائل دون أن يتعلموها من الناس.. ويخلص “ابن حزم” إلى أن التعليم هو السبيل الأوحد إلى تهذيب النفوس وغرس الفضائل فيها.. أما النفس الإنسانية عنده فهي عاقلة عارفة مميزة مؤهلة لفهم ما تخاطب به، غير أنها تتنازع بين قوتين متعادلتين ومتضادتين هما التمييز والهوى.

ويرى ابن حزم أن طلب العلم لا بد أن يصدر عن مطلب ديني وخلقي، كما يشترط في المادة التعليمية أن تكون نافعة للمسلمين في زمانهم، كما اشترط بلوغ المتعلم مرحلة معينة من النضج، وأن يكون ما يتعلمه مناسبا له، ومتوافقا مع قدراته. كما أوجب أن تكون المواد خاضعة لبراهين العقل ولملاحظة الحواس، وقابلة للتجريب. مع الوضع في الاعتبار أن أصل العلوم ما أدّى إلى الخلاص في دار الخلود، ووصل إلى الفوز في دار البقاء.

ومن الأمور التي حذَّر منها “ابن حزم” مجاوزة القاعدة الخلقية في التربية إلى التساهل في تعليم النشء الشعر الذي يحث على الميوعة أو الخلاعة أو بذل النفس تأسفا على مفارقة الحبيب، ونحو ذلك من الشعر الذي يدفع “إلى إهلاك نفسه في غير حق، وإلى خسارة الآخرة مع إثارة الفتن، وتهويل الجنايات، والأحوال الشنيعة…وتمزيق الأعراض، وذكر العورات”.

قرطبة
قرطبة

كما رأى ابن حزم أن من أوجب الأمور أن يبدأ التعليم بالعلوم التي تعتبر وسائل أو أدوات لغيرها، وعلى رأس تلك العلوم علوم اللغة واللسانيات.

ويتطرق “ابن حزم” إلى أمور تفصيلية تتعلق بالسن المناسبة لبدء التعليم، ويرى أنها السنة الخامسة من عمر الإنسان، ويحسن أن يبدأ بتعلم الكتابة وتأليف الكلمات من الحروف، ثم يتعلم القراءة ويحفظ القرآن الكريم ثم يشرع في تعلم علم النحو واللغة معا.. ثم يُعلّم الناشئ بعد ذلك العدد، ثم علم المنطق والفلسفة، ثم علم الأخبار(التاريخ) ثم علوم ما بعد الطبيعة، ويرى “ابن حزم” أن كل أمة تتمايز عن غيرها من الأمم في ثلاثة مواد هي: الشريعة واللغة والأخبار، وتتفق مع غيرها في غير ذلك من العلوم كعلم النجوم الذي يتضمن علم الفلك وعلم أحكام النجوم، وقد نهى “ابن حزم” عن تعليم هذا العلم الأخير للناشئة؛ لأنه لا يقف على براهين واضحة.

ومما دعا إليه ابن حزم في غير مبالغة الاهتمام بالخط وجماله ووضوحه، دون الحاجة إلى التزيين والزخرفة لأن في ذلك داع إلى ملازمة الحكام والولاة، وما في ذلك من مواطن الفساد حسب رأيه!

وقد رأى ابن حزم “وجوب الاعتناء بالقادة والنوابغ في الأمة، لأن الاعتناء بهم كفيل بصلاح أمور المجموعة، وأن لكل عمل تقوم به المجموعة درجة من الكمال توازي كمال ساستها وقادتها في الأخذ بمعايير القيادة السليمة، كما أنه يفرّق بين صلاح الفرد أو فساده في ذاته؛ وبين إصلاحه أو إفساده في إدارة المجموعة؛ فتراه يؤكد في مواضع من كتبه على أن المجموعة بغير قائد يقودها لا يصلح لها حال، ولا يمكنها القيام بالأعمال العظيمة التي تُقارب الكمال، حتى ينتظم عقدها تحت قائد يقودها ويدبر شئونها، وهذا القائد لا بد أن يُعَدّ بعناية لهذه المهمة لتتكامل شخصيته وتحسن طباعه وتصرفاته؛ وهذا الإعداد المبكر يعد من الأمور اللازمة للحكم على نجاحه في القيادة أو عدمه، وكذا في العملية التربوية والتنظيمية للمجموعـة بدون شتات أو تناقض أو اضطـراب.. وفي ذلك يقول: “خطأ الواحد في تدبير الأمور؛ خيرٌ من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد؛ لأن خطأ الواحد في ذلك يُستدرك، وصواب الجماعة يُضري ـ أي: يعوّد ويُغري ـ على استدامة الإهمال.. وفي ذلك الهلاك”.. ومن وصاياه لطالب العلم “إذا حضرتَ مجلسَ علمٍ فلا يكن حضورُكَ إلا حضور مُستزيد علمًا وأجرًا، لا حضور مُستغنٍ بما عندكَ، طالبًا عثرة تشيّعها أو غريبة تشنِّعها؛ فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلمِ أبدا”.

طوق الحمامة

وهو يحذر من الأدعياء الذين هم أخطر على العلم وأهله من سواهم فيقول: “لا آفة على العلوم وأهلها أضرُّ من الدُّخلاء فيها، وهم مِن غير أهلها؛ فإنّهم يجهلون ويظنُّون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدرون أنهم يصلحون”.

ولا شك أن إسهام “ابن حزم” في هذا المجال يستحق مزيدا من البحث والدراسة، من البحَّاثة التربويين، حتى تتحقق الفائدة المرجوة من تراث فقيه الأندلس، الذي لا يعرف الكثيرون عنه سوى أنه مؤلف “طوق الحمامة” في الألفة والإيلاف، وهو أول كتب “ابن حزم” وقد كتبه وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock