هناك في الزمن الغابر السحيق ، حين لاحت نذر الطوفان، بنى نوحٌ سفينه الضخم وجمع إليه من كل خلق زوجين فلما فار التنور دعا ابنه لينضم لمركب الخلاص، لكنه أبى وقال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء فقال نوحٌ قولته الخالدة “لا عاصم اليوم من أمر الله”.
ولاتزال البشرية كلها تعيش ذات اللحظة الوجودية التي واجهها الإنسان القديم في غمرة الطوفان فى المحنة التي ملأت العام العشرين من القرن الجديد وتخطته. لحظة رافقت الإنسان منذ بدأ رحلة الوعى والاختيار وكانت دائما تنطوى على الخطر المحدق من كل الجهات لا فرق بين غنى وفقير ولا قوى وضعيف، وكان الخلاص دائما لمن أعد العدة واعتصم بالإيمان.
ويبدو أن مجتمعنا المنكوب كان يحتاج من زمن لطوفان جديد أو لوقفة قدرية تفرض تأمل ما حدث وإعادة ترتيب الأوراق بعد ان هزأ أفراده في البداية من الطوفان القادم وراحوا يطمئنون أنفسهم بأن أيام الشظف وأكل الفسيخ والبصل تركت لديهم مناعة لن يقدر عليها الفيروس، واستراحوا لما تعودوه من تلاصق، محتمين في زحامهم من الخطر، مستدفئين بالزحام من برودة الخوف والتباعد الإجتماعى. وبقدر لامعقولية الفكرة بقدر ما اقتحم الكورونا كتلتهم المصمتة وبدأ ولا يزال يلتهم منها الأهل والصحاب. هل هو العقاب القدرى للتهاون والاستهتار بالخطر أم هو جزاء الوهم بأننا شعب قديم قدم الزمن تحمينا العناية ولا يطالنا شر المرض؟ لا أحد يدرى.
ومنذ جاحت الجائحة والعالم منشغل بمحاولات السيطرة على الوباء المستشرى وبالتحليلات والنظريات ما بين البحث عن مؤامرة أفرزت الفيروس القاتل أو صدفة مجنونة، الى التخرص حول فائدة اللقاحات وأخطارها، إلى التجارة المربحة فيها، وكلٌ يغنى على ليلاه.
والذى لا يمكن إغفاله أن أحداث التاريخ الكبرى كثيرا ما كانت تظهر كصدف مجنونة ثم يتبين مع الزمن أنها كانت نتائج منطقية لمقدمات كانت موجودة. فكما أن شعبنا تعود أن يهرب من الخطر بانكاره وتجاهله إلى أن يقاسى نتائج إهماله، فإن العالم المتقدم ظل يرتكب حماقة أشد خطرا وأقسى نتيجة، فمع نهاية القرن العشرين أوضحت الاوضاع العالمية التناقض الصارخ بين أمرين شكَّلا جوهر الحضارة الغربية منذ احتلت موقعها المتميز من التاريخ، أولهما التطور العلمى والتكنولوجى الذى اخترق حجب الفضاء ووصل لفك شفرة الجين الإنسانى وحوَّل العالم بوسائل التواصل إلى قرية صغيرة. لكن ثانيهما هو سعار المال والقوة الغاشمة التي دأبت على القتل والنهب والترويع المستمر طلبا لمزيد من الثروة والقوة حتى انقلب العالم إلى غابة مجنونة بالقوة والتكنولوجيا.
وهكذا فبقدر ما نجحت الحضارة الغربية في العلم وامتلاك القوة المادية اللامتناهية بقدر ما فشلت في الارتقاء بالمعايير الإنسانية، وها هى تبتلى بكائن دقيق كفيروس الكورونا ينبهها أن تقدمها – على ضخامته – قد لا يغنيها وأن يد القدر قد تكون أقوى وأقسى من كل شرور البشر.
ولعلها ليست صدفة ان يظهر الفيروس والعالم كله يمر بحالة من الترقب ونذر تغيرات هائلة تلوح في الأفق، فبينما تنبسط سنوات القرن الجديد أمامنا فإننا نرى بوادر أفول للمراكز التقليدية للحضارة الغربية، نعم سيظل التقدم العلمى والتكنولوجى هو الصبغة الأساسية للنشاط الإنسانى إلا ان الشواهد تبشر بتراجع دول المقدمة وفى طليعتها الولايات المتحدة تعقبها بريطانيا وأوروبا بينما ستتقدم الصين خلال الأعوام القلية القادمة وغالبا ما ستصحبها روسيا الجديدة ثم الهند. وهى حتميات حذر منها المؤرخ البريطاني بول كنيدى في ثمانينيات القرن الماضى في كتابه الشهير عن نماذج صعود وهبوط القوى العظمى حين أشار إلى أن تكاليف التسليح ستتجاوز النمو الاقتصادى مما سيحدث تصدعاً في بنية القوى العظمى وقد تنبا بعد ذلك بان التطور في العلوم البيولوجية وفى مجالات الذكاء الاصطناعى قد يسمح باستمرار الهيمنة الغربية عندما تتحول الة الحرب الى السلاح البيولوجى والروبوتات وهوما نراه الان في نماذج الطائرات بدون طيار التى تقوم بعمليات المسح والاغتيال، والمعامل المتقدمة التى تقوم بتخليق الخلايا والميكروبات والفيروسات.
لكن المثير للاهتمام أن كيانات أخرى في العالم النامى دخلت قائمة الترشيحات كنجوم للصف الثانى وتنوعت الترشيحات لتضم تكتلات مثل مصر وتركيا وربما إيران مع إسرائيل او بقيادتها مع إضافة مسميات جديدة كالديانات الإبراهيمية. وهى أفكار بالتمنى تتصور قوى تلعب أدوارا في صد المد الصينى ولتكون خطوط دفاع للإمبريالية الآفلة.
لكننا في مصر الآن ومع استفحال الكورونا نواجه تسونامى سد النهضة الذى يرتبط على الأغلب بهذه الترشيحات، ويهدف للقضاء على كل فرص النهوض في مصر بقطع المياه عنها خلال السنوات القادمة التي سيعاد ترتيب العالم فيها لكى يتراجع ترتيبها في قائمة الترشيحات التي خرجت من بعض مراكز البحث، وقد تختفى تماما من القوائم او حتى الخرائط . فمصر هبة النيل قد لا تكون بعد اختفائه. ولذلك فالتحدى الوجودى لمصر ليس فقط بتهديد حصة المياه ولكن ربما بالخنق الكامل للنيل. وقد أخفى الأحباش أهدافهم الحقيقية لعشر سنوات لكنهم بدأوا يشمون روائح النصر وتأرجح العزيمة المصرية امام الضغوط الأمريكية التي كشفها كاميرون هدسون المبعوث السابق لأوباما للسودان حين صرح في التاسع من هذا الشهر بأن أمريكا نبهت على مصر بعدم مهاجمة إثيوبيا، بعد ذلك بدأت ألسنة الإثيوبيين تفلت وتتكلم عن بيع المياه بل وعن حجبها تماما عن مصر. والخطة بارعة ومرسومة في أقبية الصهيونية العالمية لتضمن ألا تقف مصر على أقدامها تحت أي ظرف ولعقود طويلة وكأنه لم يكفهم توقف النهضة المصرية منذ ٦٧. فسد النهضة ليس لتوليد الكهرباء وإلا كانت عشرة أو خمسة عشر مليارا مكعبا من المياه تكفى لتدوير التوربينات أما حجز ٧٥ مليارا وعلى مدى سنوات قليلة وبتصميم للسد لا يسمح إلا بتسريب ضئيل للمياه ودون أي فيتو مصري أو سودانى فالنتيجة عطش شبه كامل لمصر وأخطار مائية وبيئية لا قبل للسودان بها.
مصر إذن تواجه خطر انهيار تام ليس فقط ببوار الأرض الزراعية ولكن بتشريد ربع السكان وإحداث تدهور هائل في مقدراتها لنصف قرن آخر على الأقل تتمكن إسرائيل خلاله من إحكام السيطرة على المنطقة كلها وتحقيق حلم النيل الى الفرات. والمسألة لا تحتمل سخرية المولعين بالحديث عن نظريات المؤامرة، فالعلاقات الحبشية والصهيونية قديمة وقوية وزيارة نتانياهو للبرلمان الإثيوبى العام الماضى كان فيها الكفاية من دلائل التآمر الصريح. كما لا تحتمل الإلحاح على الحكمة والتروى إغفالا للخطر المحدق وخوفا من فكرة الحرب وأهوالها، مثل ابن نوح الذى لم يسع للخلاص من الخطر بمواجهته لكن بالهرب منه، وهى نفس نظرية الفسيخ والبصل التي ستقوى المناعة وتحمى المصريين من الكورونا وكفى الله المؤمنين القتال. علينا جميعا ان ندرك أنه لابديل عن الدفاع عن حقوقنا التي يضمنها القانون الدولى وكل الشرائع والمعاهدات التي تنكرها اثيوبيا على الطريقة الصهيونية في التفاوض وإدارة الصراع. ونحن في هذا لا نغامر ولا نقامر ولكن نستخدم حقنا الإنسانى في الدفاع عن الوجود. كما أننا نستطيع مواجهة المؤامرة الشريرة ووأدها في حجرهم إذا أعدنا النظر في خريطة العلاقات الدولية وأنجزنا تحالفات جديدة توفر لنا حماية أكثر، فالتآمر الإسرائيلى علينا لم يتوقف منذ وقعنا معاهدة السلام المزعوم، وعلاقتنا بأمريكا التى ظلت عبئاً وقيدا لخمسين عاما تعطلت خلالها حريتنا في الحركة بحجة المعونة التي شكلت القيد على إرادتنا وكان الثمن ضئيلا ومهينا، وقد آن لنا أن نتحرر من هذا الأسر. إن سياسة التراجع في مواجهة المؤامرات الإسرائيلية لن تجدى فالعدو شرس ولا يعرف التوقف وهو لا يفهم إلا لغة القوة ونحن بحاجة لتقوية عزيمتنا والانضمام إلى معسكرات مضادة لنردعه ونوقف تهديداته المستمرة.