رؤى

رحل حافظ سلامة وبقيت حكايات بيوت السويس المناضلة

عندما تصبح مقاومة العدو الإسرائيلي إبداع مصري خالص

تلقيت نبأ رحيل عمنا شيخ المقاومة حافظ سلامة  بحزن شديد ،  فعلاً خبر صادم  فجر ذكريات السويس في وجداني  ، وكنت معه منذ فترة  ليست طويلة أمضينا اليوم معه في حكايات وذكريات ، الرجل يحفظ كل من كان معه يتكلم كأنة يحضر الشخص بشحمه ولحمه ( حكاء مصري جميل وبسيط )  يتكلم ويخص  بكل تقدير البطل الراحل الفريق سعد الدين الشاذلي قائد أركان الجيش المصري العظيم في حرب أكتوبر يذكرك ببطولة الجنرال المخيف للعدو المشير الجمسي  هذا القائد الفذ  الذي يحفظ السويس مثل كف يده  وكذلك قصص وبطولات  اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث ودور فضيلة الإمام  الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الذي كان مع الأبطال علي جبهة القتال  و تذكر حكايات  حامد محمود القيادي الناصري محافظ السويس الذي قال عنه جمال عبد الناصر ذات يوم  حامد محمود هو نفسه جمال عبد الناصر في السويس ،  وتحدث  بثناء كبير حافظ سلامة عن البطل  اللواء يوسف عفيفي قائد الفرقة  19  وقصص  الشهيد -أمير الشهداء- إبرهيم الرفاعي  والبطل عقيد محمد الفاتح كريم  والثبات في الأرض كما وتد من حجر صوان وتحدث عن أمانة العقيد أمين الحسيني رئيس مباحث أمن الدولة في السويس  أثناء النكسة ونصر أكتوبر قال تختلف الصورة عندما تكون مباحث أمن الدولة للدولة فعلاً تحدث عن بطولات عساكر قسم شرطة الأربعين الذين قاموا المحتل كما في الأسماعيلية عن حكايات الشط والأبنودي عن البهجه  في غناء  المقاومة خصوصاً كابتن غالي مؤسس فرقة أولاد الأرض..

حكايات من بيوت السويس الفخر والإفتخار

  مفتتح ….تحولت مصر كلها لشجرة  تقف وسط أجواء عاصفة يحكي الشيخ حافظ، كانت لنا مهمة توصيل المدنيين للقطار كانت مشاهد صعبة عقب عدوان 67 رأيت أناسا تصنع الفارق في معادلة النصر المؤكد بلا شك، لم يعد هناك فرق بين ما هو مدني وعسكري،  الكل في بوتقة واحدة حتمية، النصر لامفر كانت معركة استنزاف العدو في خط الجبهة، وفي القلب منه السويس، هي المحفز للفكر العسكري المصري ثم يسرح قليلاً، لينطلق سجل الذكريات لكل من عاصر ( 67-73)  هذا التوقيت كبر فيه الصغار ، كأن حديث عمنا حافظ سلامة أخذني نحو  القاهرة عجرود والعكس صحيح ….يحفظ  وجدان المصريين  كلمات عجرود ، المثلث  ، وقت العدوان يتغير المصريون يتحولون لشعب آخر له كتالوج مختلف ، لكن تبقى  السويس  المدينة التي هزمت الإنجليز والصهاينة  وحدها في سجل الشرف المصري، عجيب  ما يحدث من المصريين البسطاء وقت الحرب،  شئ يفوق التصور،  كنت طفلاً صغيراً لكن أتذكر كيف كانت تسير ليلاً تجمع ميداليات الشهداء ( عبارة عن سلسلة عليها رقم الشهيد وتدفن كل شهيد تراه ثم تسلم أرقامهم لمقر المقاومة الشعبية في حي الأربعين  ، نزلنا من قطار المجهود الحربي في ميدان أحمد حلمي  افترشنا الشارع ثلاثة أيام   كاملة ويعطف علينا كل من يمر من عمارة سيد عيسى  تأتي لنا سندوتشات الفول والطعمية  ، أذكر بكاء أمي المتواصل  وصمت أبي  الخمار الكبير دون أن ينطق بكلمة، يذهب كل يوم عدة ساعات ثم يعود ونحن في حماية  أهل ميدان أحمد حلمي ،  المارة  يرحمون  عجزنا و يعطف علينا رجل كبير بغطاء فنحن ننام في العراء علي الرصيف ،  أمي  تصرخ كيف أن أمها  رفضت ( ستي زينب أم أمي)  العودة للقاهرة  مع جدي إبراهيم.

والليل في أجواء الحرب وعلى أنغام السمسمية يغنى السوايسة والمصريون جميعا أغنية “يابيوت السويس يا بيوت مدينتى.. أستشهد تحتك وتعيشى أنت” التي كتبها الخال عبد الرحمن الأبنودى، ولحنها المبدع إبراهيم رجب، وغناها الرائع محمد حمام.

كانت الاغنية – ومازالت- بيانا تاريخيا عن انتصار وصمود الأبطال من اهل السويس وبسالتهم للدفاع عن المدينة ضد العد الصهيوني الذى حاول الاستيلاء عليها في محاولة يائسة لتعويض خسائره الفادحة والمؤلمة في حرب أكتوبر المجيدة.

 يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي

أستشهد تحتك وتعيشي إنتِ

هيلا هيلا هيلا يلا يا بلديا

شمر دراعاتك الدنيا أهّيه

وإن ضاع العمر في سوق المنية

رفاقه ها نروح السوق نجيبه

ونعود ونغني ع السمسمية

ليكي يا مدينتيي ياللي صمدتي

يا بيوت السويس .. يا بيوت السويس

يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي

أستشهد تحتك وتعيشي إنتِ

أستشهد والله وييجي التاني

فداكي وفدا أهلي وبنياني

وأموت ويا صاحبي قوم خد مكاني

دى بلدنا حالفة ما تعيش غير حرة

قفلت بيتي وسكيت دكاني

ياشاطي و بحري وشبكي وسفينتي

يا بيوت السويس .. يا بيوت السويس

يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي

أستشهد تحتك وتعيشي إنتِ

هزمنا المحتل الإنجليزي

يتذكر حافظ سلامة قصة الصمود الأول  للسويس  ، وحدث فى عام 1942  يقول كنت شاباً في مقتبل العمر ، كنا نلقن المحتل الإنجليزي فنون القتال والمقاومة المسلحة  وفي لحظة قرر هدم الإنجليز مبانى كفر أحمد عبده بالسويس لأن كان بها الفدائيون الذين يتصدون لوطنهم الغالى فهدم الكفر وهم يبحثون عن المقاومين الذين ضربوا  معسكرات القوات البريطانية بمنطقة السويس ، ولم يكن بالطبع ما أعلنه الجنيرال آرسكين هو المقصود من الإزالة ، بل لجعل أرض الكفر أراضى بيضاء مكشوفة تماما لأنها كانت الملجأ الأول والأخير للفدائيين المصريين الذين يقومون وبشكل يومى بغارات على معسكرات الإنجليز ويتكبدون يومياً خسائر جرحى وأرواح ، ولكن الكبرياء والغطرسة منعتهم من ذكر الحقيقة ، وبالفعل تم هدم الكفر وسط استنكار عالمي للحادثة وبعد ثلاث سنوات أى فى عام 1954 ترك الإنجليز معسكراتهم ورحلوا وعاد كفر أحمد عبده إلى الوجود وبعد أن كان يأوى ألف مواطن أصبح الآن تعدادة لا يقل عن 200000 نسمة والشئ يذكر للمهندس عثمان أحمد عثمان الذي قام بملحمة في البناء   ، يصمت الشيخ حافظ ثم يواصل الحديث ،  أعلمتم يا سادة لماذا أعتز دائما بأننى أحد أبناء كفر أحمد عبده فضلا عن إعتزازي بانتمائي للسويس ”  وهي العشق والجرح  قبل النصر  وأثناء العدوان “….

ولد سلامة بالسويس في 6 ديسمبر 1925، وكان له دور اجتماعي وسياسي ونضالي بارز لا ينسى في تاريخ مصر،  سلامة أسهم في دعم المقاومة والمشاركة في العمليات الفدائية والتعبئة العامة للفدائيين ، و دوره في قيادة المقاومة الشعبية في مصر خاصة في عدم استسلام مدينة السويس في حرب أكتوبر 1973، وصمود المدينة أمام الحصار ضد الاحتلال الإسرائيلي في حرب الاستنزاف يوليو 1967.

كتبت  المقاومة لمدينة السويس ” عنوان مدينة البطولة والتضحية”  بحسب قول الشيخ حافظ  سلامة ، مؤكدا أنه لا توجد مدينة في مصر قدمت من التضحيات وأظهرت من البطولات في معارك وأحداث كان لها أثرها في تاريخ مصر الحديث مثلما قدمت السويس، بحيث أصبحت هي المدينة الوحيدة التي لها عيد وطني من أعياد مصر وإن لم تعطل فيه المصالح الحكومية ويذكر به المقاومة الشعبية كجزء من اسم عيد مدينة السويس.. 24 أكتوبر “عيد مدينة السويس والمقاومة الشعبية”.

وتحدث حافظ  سلامة في لقائي  معه  عن شريط ذكريات وحقبة من الزمن تمتد لخمسين عاما تبدأ من أكتوبر 1941 ولم تنتهي في أكتوبر 1973 حيث كان شاهدا على الأحداث ومشاهدا على ما قدمته السويس وأثره على مجمل المسيرة الوطنية.. حيث شهدت هذه الأعوام أحداثا مهمة وعارمة في تاريخ مصر.      

حافظ سلامة أثناء مقاومة الاحتلال
حافظ سلامة أثناء مقاومة الاحتلال

               

 موقعة كفر أحمد عبده 8 ديسمبر 1951

يروي حافظ سلامة في  الحوار معه …اجتمع البرلمان المصري بمجلسيه (النواب والشيوخ) مساء يوم 8 أكتوبر 1951، حيث ألقى مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء بيانا مستفيضًا أعلن فيه قطع المفاوضات السياسية التي كانت قائمة مع الحكومة البريطانية بعد أن بين عدم جدواها وتم إعلان إلغاء معاهدة 1936 التي كانت توصف بمعاهدة الصداقة والتحالف والتي كانت الأساس القانوني لوجود القوات البريطانية في منطقة السويس، وقد أدى إلغاء المعاهدة هذه القوات إلى تحول القوات البريطانية من قوات حليفة إلى قوات معادية، .. واشتعلت المقاومة في السويس والإسماعيلية وأصبح الجنود البريطانية في القنال أهدافاً للمقاومة الشعبية وبدأت عمليات الترهيب البريطانيين في السويس إعتبارا من يوم 3 ديسمبر وتصاعدت إلى الحدث الهام وهو يوم 8 ديسمبر 1951 حيث موقعة كفر أحمد عبده والتي حسبما ذكر المؤرخ العظيم عبد الرحمن الرافعي،  في صباح يوم الثامن من ديسمبر عام 1951، تحملت السويس جريمة إنسانية اهتز لها العالم أجمع، عندما وقف المجرم “أرسكين”، قائد القوات البريطانية المحتلة لمدينة السويس، مبتسما وهو يدخن سيجاره ويشاهد نسف وإزالة “كفر أحمد عبده” من الوجود، حيث لم تتحمل بريطانيا استبسال ومقاومة أبناء السويس فصنعت سببا مضحكا لهذه الجريمة البشعة، وأعلنت أنها تحتاج لطريق يربط بين وابور المياه “محطة الفلترشين” وبين معسكراتها في طريق الإسماعيلية، وبناءً عليه لابد من إزالة كفر أحمد عبده بكل ما فيه لم تكن موقعة بل كانت جريمة وحشية من قبل القوات البريطانية حيث تمت عملية  إبادة كفر أحمد عبده تماما.

وحشية الإنجليز لم تتوقف لتفكر أن الكفر به 156 منزلاً بهم حوالي 1800 نسمة، فأنذرت المحافظ بالنسف ثم قطعت كل الطريق المؤدية للسويس وقطعت التليفون والتلغراف، ثم بدأت قواتها المكونة من 6000 جندي من فرق الكوماندوز والمظلات ومعهم 500 دبابة بنسف البيوت بعدما أخرجوا الأهالي، وكان الهدم بوقوف 4 دبابات أمام المنزل ثم قذفه لتأتي الكاسحات فتجعله جزءا من الطريق في الحال، وصاحب المنزل يبكى من الجانب الآخر.

دبابة إسرائيلية مُدمرة في كفر عبده
دبابة إسرائيلية مُدمرة في كفر عبده

تم نسف الكفر وتهجير من تبقى من الأهالي، لكن المقاومة ظلت باقية، وشهد العالم كل هذه الجريمة القذرة عندما نشرت الصحف العالمية صورة لشهيد لم يتجاوز عمره عامان، قتلته القوات البريطانية أمام والدته أثناء مقاومة أهالي منطقة البراجيلي للقوات البريطانية.

وبسرعة تلاحق الأحداث في السويس بين عدوان الإنجليز وعدوان العدو الإسرائيلي ..  وهي لحظات تمر كأنها تحدث اليوم ، يروي حافظ  سلامة  أرى نفسي  وكنت أبكي من الفرح    في عام  النكسة 67 الذي كان لنا درس عظيم تجلي  بضرب المدمرة إيلات وإغراقها يوم 20 أكتوبر 1967 حيث كنت في منطقة المثلث مع بعض الأبطال من المقاومة و كنا نتلقي إتصالات من بعض القادة  وفي  يوم 24 أكتوبر 67 فتحت القوات الإسرائيلية نيران مدفعيتها وطيرانها على مدينة السويس وكان أهم ما دمرته هي منطقة “الزيتية” معامل تكرير البترول في المساء وكان معنا شباب  المقاومة وسمعنا في الراديو بي بي سي  القرار 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967.

أثار معركة كفر عبده
أثار معركة كفر عبده

الثغرة المشئومة والجسر الأمريكي

 كنت في ذلك الوقت أسجل  كل شئ يحدث  في نونة  صغيرة جمعتها بعد ذلك في كتابي  الثغرة المشئومة  أذكر  في هذه الأيام وبعد وقوع الثغرة بعدة أيام وتعاظم ما أداه الجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة ليخدم إسرائيل بعد أن ذهبت جولدامائير للرئيس نيكسون وكانت  جولدا تبكي وطلبت منه إنقاذ إسرائيل فكان تكثيف المساعدة العسكرية لإسرائيل ، في تلك الأوقات كنا في الجبهة نيران لاتتوقف  والكلمات تعجز عن وصف قوة الجيش المصري في معارك  القتال بين المدرعات والعربات المدرعة من ناحية والرجال والأطفال المسلحين بالإيمان والحماس بأسلحة خفيفة لا ترقى إلى تسليح الوحدات المهاجمة في قتال امتد في الشوارع وبين المباني وفي داخلها وأمام حجم الخسائر في الأفراد والمعدات وربما الأهم من ذلك في ضوء الإنهاك الذي كان قد وصلت إليه القوات المهاجمة في مواجهة شراسة القتال والإصرار من جانب المقاومة من أهل السويس وبعض أفراد القوات المسلحة وأفراد من الشرطة قرر الجنرال آدن أن يفض الاشتباك قبيل غروب شمس 24 أكتوبر… كانت معركة السويس نقطة تحول بلا أدنى شك.

هذه الملحمة الإنسانية تستحق البحث من جديد والتحقيق وتدريسها للأجيال الحالية لأنه وبكل أسف كل المعلومات المتاحة عنها قليلة للغاية لكني سجلت كل ما رأيت .

بطولات من الشهداء على مر العصور، حيث إن السويس صنعت تاريخها المشرف بدماء طاهرة وظلت شامخة صامدة، هكذا كان بعض من حديث الشيخ حافظ سلامة الذي رحل في شهر رمضان شهر الإنتصار الخالد في تاريخ مصر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock