سيظل الأستاذ الراحل والكاتب الكبير مكرم محمد أحمد علامة بارزة في الكتابة والعمل الصحفي على مدى أكثر من ستين سنة، بدأت منذ تخرجه في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1957حتى وفاته يوم الخميس 15 أبريل 2021 ميلادية، الموافق 3 رمضان 1442ه، عن عمر ناهز 86 عاما بعد معاناة مع المرض.
خلال مسيرة الراحل كان رئيسا لقسم التحقيقات بالأهرام، ثم مديرا لتحرير الأهرام، وفي 1980 شغل منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة المصور.
جمع الراحل بين النجاح كصحفي صاحب تحقيقات وحوارات مع رؤساء دول ومفكرين وشخصيات كبيرة، وبين قلمه الجاد الذي تابعه فيه القُراء من خلال عموده الشهير في صحيفة الأهرام “نقطة نور”، إذ كان في عموده معبرا تعبيرا صادقا عن التحليل المميز المعتمد على معلومات موثقة، والبعيد عن العواطف والانفعالات والإثارة.
أجرى الراحل الكبير عددا من الحوارات المميزة التي كشفت حقائق مهمة، ومن حواراته التي صارت وثيقة مهمة حواره الشهير مع الشيخ محمد متولي الشعراوي في مجلة المصور، العدد رقم 2996، بتاريخ 12 مارس 1982م، الموافق 16 جمادى الأولى 1402ه.
سياسة .. ومطامع
في هذه الوثيقة المهمة أو هذا الحوار تحدث الشيخ الشعراوي بوضوح عن جماعة الإخوان من خلال الأسئلة التي وجهها له الأستاذ مكرم محمد أحمد والصحفيون الذين شاركوا في إجراء هذا الحوار النادر المهم.
في الحوار أقر الشيخ الشعراوي بأنه كان من الإخوان فقال: “لقد كنت من الإخوان المسلمين، وأول منشور طُبع للأستاذ الشهيد حسن البنا كان من إنشائي وبخط يدي، واسألوا في هذه الواقعة الشيخ الباقوري”.
كما أثنى على حسن البنا مؤسس الإخوان، ووصفه بالداعية المخلص المستنير، لكنه استدرك قائلا: “عندما يأتي أناس ويدخلون مع حسن البنا فنحن لا نضمن أن تكون لهم روح حسن البنا، والناس الذين جاءوا معه لهم حياتهم الخاصة، ولهم محيطهم الخاص، معروف سلوكهم فيه، معروف فيه كل شىء، وعندما يراهم الناس بعد ذلك ويرون دعوتهم يجدون أنهم قد أصبحوا غير ملتزمين، ويشكلون نقطة ضعف للرجل، ومع الأيام أصبح لهم طموحات”، وقال: “إن الإخوان تعجلوا الثمرة، وقربوا من المطامع، والصفوف الأخيرة من الإخوان هم أحسن حالا، وهؤلاء خير شباب البلد.
ثم أعلن الشعراوي للأستاذ مكرم الحقيقة التي توصل إليها من أن المسألة عند الإخوان لم تعد دعوة لله، ونشرا للإسلام، وإنما أضحت مسألةَ سياسةٍ وأغلبيةٍ ومطامع، فقال: “اختلفت معهم لأنني وجدتُهم متحاملين على حزب الوفد، وخصومتهم للوفد شديدة، فقلتُ لهم: لماذا؟ قالوا: لأنه صاحب حزب الأغلبية، وله جذوره، أما الأحزاب الأخرى فببصقة منا نُطفؤها، فعرفتُ أنها مسألة سياسية، وخرجتُ عليهم”.
وحين سُئل: ما رأيك في أن ما خرج من معطف حسن البنا هو العنف؟ أجاب:أقر أن العنف خرج من معطف البنا، لذلك شرع في بيان أسباب خروج العنف من معطفه قائلا: “حين أُوجد تنظيماً لأقوى به على غيري.. أأمن ألا يقوى عليّ هذا التنظيم؟ إن هذا ما حدث للشيخ حسن البنا، حدث أن التنظيم الذي كان يريد أن يقوى به على غيره قوي عليه هو، وانتهت المسألة وحل الإشكال، مثل ما شكينا من مراكز القوى، مراكز القوى بهم كانت وعليهم آلت، وهذا هو الذي جعلنا لا نعمل تنظيمات”.
فهو هنا يرفض فكرة التنظيمات؛ لأنها تمارس العنف، ويؤكد أنه مضى يكشف لنا أن المسألة تحولت إلى مراكز قوى بعيدا عن البنا، كأنه يشير إلى أن فكرة البنا نفسها انتهت، وأن السيطرة صارت للجهاز السري للإخوان الذي كان يرأسه عبد الرحمن السندي.
الإخوان أعدائي
يلخص الشعراوي موقفه من الإخوان في إجابته على سؤال لمجلة المصور التي سألته: سيادتك قلتَ: إن أعدائي هم الشيوعيون والإخوان المسلمون، نريد مزيداً من الإيضاح لهذه النقطة بالذات؟ فكانت إجابته: “الإخوان أعدائي؛ لأنهم لا يسمعون الإسلام إلا من حناجرهم، إن قام واحدٌ ليقول في الإسلام وليس منهم فلا يسمعون حديثه”.
ونلاحظ هنا أمرين من هذه الإجابة:
الأول: أنه صرَّح بأن الإخوان أعداؤه، وهذا تصريح يُسْقط ما يزعمه الإخوان من أن الشيخ كان محبا للإخوان أو مؤيدا لهم، فكلمة الشيخ تؤكد مدى رفضه القاطع للجماعة وفكرها، ولا شك أنه يقصد بالعداوة هنا الانحراف عن المنهج السليم، وليس العداوة بمعنى الخصومة الشخصية.
ورفضه للإخوان رغم أنهم يزعمون ويميزون أنفسهم بالدين والعمل على تطبيق الشريعة، والحماس في سبيل الدعوة له، فلأنه يرى أنهم كاذبون في دعوتهم، وأن المسألة -كما اكتشفها الشعراوي مبكراً -هي “مسألة سياسية” لا علاقة لها بالدين الذي ينتحلون صفته ويتحدثون باسمه.
الثاني: أن الشيخ كرر هذه الجملة، جملة (أعدائي هم الإخوان)، بدليل السؤال من أسرة المجلة: “سيادتك قلتَ إن الشيوعيين والإخوان هم أعدائي”، وهذا يعني أنه قال هذا في موضع سابق في مكان آخر.
والمكان الآخر أنه قالها لمجلة الدعوة الإخوانية، ونقلها الصحفي محمد عبد القدوس، ففي مانشيت رئيسي بمجلة الدعوة الإخوانية عنوانه: (لقاء عاصف مع الشيخ الشعراوي)، ذكر الصحفي المعروف وقتها بتعاطفه مع الجماعة الأستاذ محمد عبد القدوس داخل المجلة ما نصه:
“ذهبتُ لإجراء حوار صحفي مع الشيخ الشعراوي حين كان وزيرا للأوقاف، فاستقبلني استقبالا كبيرا، ولما علم أن الحديث سيكون لمجلة الدعوة الإخوانية بُهت الشعراوي، وكأنه فوجيء بما لم يكن في حسبانه، وقال لي: أنا أكتب لمجلة الدعوة!! هذا مستحيل، فأردتُ أن أصحح له، فقلتُ لن تكتب، سأجري معك حديثًا صحفيًا، فقال بالحرف الواحد: (لا لا .. مستحيل.. أنا أفضل التعامل مع أهل الكتاب على التعامل مع الإخوان المسلمين ومجلة الدعوة، والإخوان أعدائي، لقد اتهمني عمر التلمساني بأنني أمنع أذان الفجر وأحلل الربا”.()
وعلق عبد القدوس على هذا الموقف قائلا:
“ومجلة الدعوة تحب أن تخبر الشيخ الشعراوي أنه ليس هناك أي عداء شخصي بينها وبين فضيلته، رغم سيل الشتائم والإهانات التي وجهها إلى الإخوان المسلمين ومجلة (الدعوة) ومندوبها، ونحن نستغفر له وندعو له بالهدى، وإن كنا لا نفهم أبدا سر حملة فضيلته الشديدة علينا”.
رد التلمساني على الشعراوي
يبدو أن حوار مجلة المصور مع الشعراوي أحدث هزة عنيفة لجماعة الإخوان، ولذلك كتب عمر التلمساني المرشد الثالث لجماعة الإخوان ( 1904م-1986م) مقالا عنوانه: (تصحيحٌ لوقائع) نشره بمجلة المصور، العدد 3000، صدر في 9 إبريل 1982م، ص35، ليرد به على حوار الأستاذ مكرم وزملائه مع الشيخ الشعراوي وانتقاده لجماعة الإخوان.
وخلاصة ما جاء في مقال التلمساني أن الشيخ الشعراوي في حواره مع مكرم محمد أحمد وفريق عمل مجلة المصور قال عن الإخوان ما ليس فيهم، وتعرض لوقائع تاريخية لا يمكن للإخوان السكوت عليها، وكان يجب عليه ألا يجيب على أسئلة مجلة المصور الخاصة بالإخوان، وأنه ترك جماعة منهاجها كتاب الله، من أجل حزب منهاجه من وضع البشر، وكان يجب عليه أن يستر الإخوان لو كان في تصرفاتهم ما يستوجب الستر، وأن الوقت غير مناسب ليهاجم الإخوان في هذه الأوقات الحرجة، ويدًّعي على الإخوان مواقف غير صحيحة، وأنه قال إن الإخوان لا يسمعون الإسلام إلا من حناجرهم، وخاصم الإخوان، وأظهر لهم العداء، بدلا من إظهار النصح والتقويم”.
تعقيب مكرم محمد أحمد (المصور) على رد التلمساني:
وقد عقبَّت مجلة المصور-عن طريق الأستاذ مكرم- على مقال التلمساني بقولها:
“لا نعرف لماذا يُعقِّب الأستاذ التلمساني على الشيخ الشعراوي عندما يناقش أمر جماعة كان لها أثرها في الحياة المصرية، وكان لها أخطاء ندد بها المرشد نفسه، ولا نعرف مبررا يدعو الشيخ الشعراوي ليستر بطرف ثوبه وقائع وحقائق خاصة بجماعة الإخوان وتاريخها، لماذا يطلب الأستاذ التلمساني باسم توحيد الصفوف أن يكتم الشعراوي شهادته ورؤيته في جماعة اكتنفها الكثير من الغموض، إن الإخوان ليست معصومة لتبقى بعيدة عن النقاش والمراجعة والنقد والرفض والمواجهة”.()
رحم الله الأستاذ مكرم فقد ترك تراثًا صحفيا يستحق الاهتمام والبحث.