رؤى

العمامة الثائرة.. القلعة تحت الحصار

لم تكن الأحداث التي شهدتها مصر في شهر مايو من عام ١٨٠٥ بالعادية او العابرة بل كانت أحداثاً غيرت وجه مصر والمنطقة برمتها لسنوات قادمة.

كان الكيل قد فاض بالشعب المصري كما عبر عنه ممثلوه من شيوخ الأزهر ومن رؤساء طوائف الحرف بممارسات الوالي العثماني  خورشيد باشا من اطلاقه العنان لجنوده الذين عرفوا بالدلاتية والتي بلغت ذروتها في ذلك الشهر.

عصيان مدني

يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر تلك الأحداث الوضع الذي كان قائماً آنذاك فيقول في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” أن سكان مصر القديمة رجالاً وسيدات لجأوا الى الأزهر ليشكوا سطو الدلاتية على بيوتهم وإخراجهم من مساكنهم رغماً عنهم وسرقتهم لمتاعهم وثيابهم٫ فما كان من الشيوخ إلا أن صعدوا إلى القلعة وخاطبوا الوالي خورشيد في هذا الأمر فأمر هذا الأخير بإخراج الدلاتية من البيوت التي استولوا عليها لكن الدلاتية بلغوا حد الاستهانة بالوالي نفسه فلم ينفذوا أمره.

هناك أدرك الشيوخ والمصريون بشكل عام أن عليهم حك جلودهم بأظفارهم٫ وبدأت ملامح عصيان مدني تتشكل في الأفق فاجتمع الشيوخ في الأزهر مع الامتناع عن القاء الدروس على الطلبة كما جرت العادة وانتشرت المناداة بإغلاق الدكاكين والحوانيت أي الامتناع عن العمل بشكل تام.

 وتطور الأمر في الثاني عشر من مايو حين ركب الشيوخ – كما يذكر الجبرتي – الى دار القاضي وعُقد مؤتمر شعبي حاشد تخلله هتاف العامة “يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي” ووثَّق الجميع مظالم الوالي متمثلة في “تعدي طوائف العسكر” على الشعب و”مصادرة أموال الناس بالدعاوى الكاذبة” اضافة الى الضرائب الباهظة.

الشعب .. مصدر الشرعية

وفي اليوم التالي حسم ممثلو الشعب أمرهم وذهبوا الى محمد علي باشا قائد القوة الألبانية وصرحوا له أنهم عزموا على عزل الوالي خورشيد وانهم يريدونه هو والياً عليهم٫ الا انهم لم ينسوا أن يضيفوا انهم يعينونه والياً عليهم بشروطهم٫ وهي الوثيقة التي وضعوها لاحقاً في وثيقة حملت اسم المشروطية و أوضحوا فيها أن واليهم الذي اختاروا عليه الالتزام بعدة أمور وهي “سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم وألا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه.”

بعبارة أخرى٫ فإنه في عصر كانت أغلب دول اوروبا تُحكم  من قبل اُسر ملكية مستبدة٫ كان الشعب المصري يُقر مبدأ محاسبة الحاكم بل وعزله إن لم يستجب لمطالب شعبه٫ جاعلاً من الشعب لا من الدولة العثمانية مصدر شرعية الحاكم.

وبطبيعة الحال رفض خورشيد قرار الشعب بعزله عن منصبه واستهان بالمصريين قاىلاً “إني مٌولى بأمر السلطان٫ فلا اُعزل بأمر الفلاحين” فما كان من الفلاحين الذين استهان بهم الا ان ضربوا حصاراً على القلعه٫ مقر الحكم٫ حتى يستجيب الطاغية المتعالي لمطالبهم.

ويشير الجبرتي الى ان نقيب الاشراف السيد عُمر مكرم والشيوخ رسموا خطة “لجميع الرعايا٫ بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم ويحترسوا في أماكنهم واخطاطهم وإذا تعرض لهم عسكري بأذية قابلوه بمثلها والا فلا يتعرضوا له”.

وهنا تجدر الاشاره الى حوار شديد الدلالة اورده الجبرتي بين كل من السيد عمر مكرم ومندوب عن الوالي يدعى عمر بيك حيث سال الاخير السيد مكرم “كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم” واستشهد بالآية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” ( النساء: 59).

وهو المنطق  رفضه السيد مكرم رفضاً تاما وقال لعمر بيك “أولو الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل وهذا رجل ظالم وجرت العادة منذ قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة وهذا شئ من زمان حتى الخليفة والسلطان اذا سار فيهم بالجور”

يبدو جواب السيد مكرم هنا وكأنه رد على تيارين يتجاذبان الساحة الفكرية اليوم٫ الأول تيار تراثي – إذا صح التعبير- يرفض فكرة “الخروج على الحاكم” ويعتبرها فكرة مبتدعة مستحدثة وتيار آخر يرفع شعار “الحداثة” ويُرجع ثورة الشعب المصري في تلك الآونة لا إلى الشعب نفسه وانما الى الحملة الفرنسية التي يرى هذا التيار أنها نبهته إلى الحياة الدستورية والنيابية٫ يجيب السيد مكرم على كلا التيارين فيؤكد على أصالة فكرة الثورة في تراث المصريين رافضاً الخنوع باسم الدين ويؤكد ايضاً ان هذه الفكرة نابعة من الشعب إذ لا يشير في جوابه من قريب او بعيد الى الحملة الفرنسية أو أي تأثير أجنبي يذكر.

وبعد نحو شهر من صمود الشعب وحصاره القلعة  وصل في شهر يونيو عام ١٨٠٥ مندوب من السلطان العثماني وقرأ قرار السلطان ومضمونه “الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقاً ووالي مصر حالاً من ابتداء عشرين ربيع أول حيث رضي بذلك العلماء والرعية وأن أحمد باشا (خورشيد) معزول عن مصر”.

ويصف الجبرتي مظاهر الفرح التي أبداها المصريون ابتهاجاً بهذا القرار الذي عدوه اعلاناً بانتصار ثورتهم حيث “فرحوا ورمحوا بطول ذلك اليوم” ورموا صواريخ في كافة النواحي و”ضربوا بنادق وقرابين بالازبكية”.

كانت ثورة مايو عام ١٨٠٥ حدثاً تاريخياً كرس المصريون وشيوخهم من خلاله مبدأ سيادة الشعب وحقه في أن يولي ويعزل من يشاء٫ ثورة انحاز فيها الشيوخ والأزهر الى مطالب الحرية والعدالة ورفضوا استغلال الشريعة لتكريس الاستكانة والسلبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock