في الرابع والعشرين من أبريل الماضي صدر كتاب نهر النيل الأساطير.. الحقوق والصراع المصري _ الإثيوبي للخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار عن دار المرايا للإنتاج الثقافي.. ويقع الكتاب في 309 صفحة من القطع الكبير، ويضم مقدمة وخمسة فصول وخاتمة بالإضافة إلى الملاحق الوثائقية.
وهذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة التي سنتناول فيها الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب التي تتناول الصراع المصري الإثيوبي وسبل مواجهة الفقر المائي الذي دخلت مصر أكثر مراحله خطورة، وأهم المشروعات التي تم إنجازها للحفاظ على مياه النيل وأهمها السد العالي.. أكبر مشروع للتنمية الشاملة في العالم خلال القرن العشرين.. ثم استراتيجية مصر المائية ومدى ملاءمتها وكفاءة تطبيقها.. قبل أن يختم الكاتب أحمد السيد النجار كتابه مجملا أهم ما ورد فيه من رؤى ومقترحات لمواجهة الأزمة.
تدويل القضية.. كان الخيار الأصوب
في الفصل الثالث من الكتاب يتناول الكاتب الصراع المصري الإثيوبي بالتحليل مع عرض لعدد من المسارات المقترحة لحلحلة الأزمة الراهنة؛ مستبعدا الحلول غير الواقعية التي تكتنفها الأوهام مثل اقتراح نقل مياه نهر الكونغو إلى مصر لتعويض النقص الذي سيطرأ على حصة مصر بعد بدء ملء خزان سد النهضة.
يتناول النجار في بداية الفصل مطالب القاهرة العادلة في ضرورة احترام إثيوبيا لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل ما يستلزم عدم المساس بحصتها السنوية من المياه، والالتزام التام بكل الاتفاقيات التي وقعت عليها إثيوبيا في العهود السابقة والخاصة بمياه النيل وإقامة السدود وعدم اتخاذ القرارات بشكل فردي فيما يتعلق بالأمن المائي لمصر والسودان دولتي المجرى الأوسط والمصب.
ولا يخفي الكاتب وجهة نظره فيما يتعلق بتقصير السلطات المصرية في إعطاء القضية ما تستحقه من الاهتمام وعدم طرح كل الخيارات إزاء التعنت الإثيوبي والتمسك بشكل مطلق بالتفاوض الودي الذي زاد من أطماع الجانب الإثيوبي.
ويرى النجار أن تدويل القضية بعرضها على المنظمات الدولية المعنية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.. كان الخيار الأصوب منذ البداية.. كما أن الصمت المصري خلال عقد كامل (2021:2011) بدا غير منطقي وغير مفهوم باستثناء ما جاء في الخطاب الرئاسي المصري في مارس الماضي الذي أعلن فيه الرئيس لأول مرة أن كل الخيارات مفتوحة لحماية الحقوق المصرية في مياه النهر العظيم.
بالنسبة لاتفاق إعلان المبادئ الذي وقعت عليه مصر في مارس 2015، يرى النجار أن هذا الاتفاق لا يحمي حقوق مصر إذ جاء على أرضية الموقف الإثيوبي كليا فلم يحقق أي مطلب رئيسي من مطالب مصر.. وهو ما يمكن “اعتباره هزيمة دبلوماسية للمفاوض الرسمي المصري في قضية سد النهضة”.
وقد أرفق الكاتب نص الاتفاقية في نهاية الفصل مشددا على أنها خلت من أي نص يشير من قريب أو بعيد إلى احترام حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، والأخطر من ذلك أن ديباجة الاتفاق تتحدث عن الموارد المائية العابرة للحدود ولا تصف النيل الأزرق بالنهر الدولي وهو ما يعد انتصارا واضحا للرؤية الإثيوبية!.
كما تضمن الاتفاق في مادته الأولى التشديد على ضرورة التعاون في تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف نواحيها، وهو ما يعد تأسيسا لحقوق إثيوبية مزعومة في مياه النيل الأزرق بالمخالفة الصريحة للاتفاقية البريطانية الإثيوبية الموقعة في 15 مايو 1902.
ورغم أن هذا الاتفاق قد تضمن العديد من المواد التي تدعم وجهة النظر الإثيوبية على حساب الحق المصري إلا أن إثيوبيا لم تلتزم بما ورد في مادته الخامسة التي حددت فترة 15 شهرا للاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لبحيرة السد.. ولم تسفر المفاوضات عن شيء بهذا الخصوص بعد مرور أكثر من 70 شهرا على توقيع هذا الاتفاق الذي أشار في مادته التاسعة إلى مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة وهو ما يعد إقحاما غير بريء لأمر لا علاقة له بموضوع الاتفاق الذي ينظم التعاون بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا بشأن النهر الدولي.
نهج أثيوبيا العدواني
في الجزء الثاني من الفصل يتناول الكاتب عددا من الحقائق فيما يتعلق بالجانب الإثيوبي ومنهجه الواضح في التعامل مع الأنهار الدولية.. ويعتمد هذا النهج على منطق الاستحواذ والاعتداء على حقوق الآخرين استنادا إلى نظرية السيادة المطلقة الفاسدة كليا أو ما يعرف بفقه “جدسون هارمون” . هذا النهج العدواني هو ما اعتمدته إثيوبيا في قضية نهر “أومو” الذي تتشارك فيه مع كينيا حيث قامت ببناء ثلاثة سدود على النهر ما أضر أبلغ الضرر ببحيرة “توركانا” الكينية، ولم تكتف إثيوبيا بذلك بل استهدفت مجموعات السكان المتضررين بانتهاكات وأعمال عنف على نطاق واسع.
ومن المعروف أن الجانب الإثيوبي قد استهدف النيل الأزرق -قلب مصر المائي- بإقامة عدد من السدود عام 1996، بعد تردي العلاقات مع مصر عقب المحاولة الفاشلة التي استهدفت اغتيال مبارك في أديس أبابا.
ويلمح الكاتب إلى أن هذه الممارسات التي تنتهك كافة المواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية تعتبر إحدى تجليات الأزمة المستحكمة التي تعيشها إثيوبيا منذ زمن بفعل نقاط الضعف التي تعاني منها الدولة الحبيسة ذات الإرث العدائي مع كل جيرانها بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي لا تهدأ بين العرقيات المتناحرة على النفوذ والسلطة. ورغم القفزة الهائلة التي حققها الاقتصاد الإثيوبي والتي نقلت البلاد من ثاني أفقر دول العالم في1999،إلى تحقيق أعلى معدلات النمو 9.1% في 2019، بمساندة كبيرة من الصين؛ إلا أن نحو 71% من الإثيوبيين مازالوا يعيشون تحت خط الفقر، ما يعني حاجة البلاد الماسة لتهدئة النزاعات الداخلية والإقليمية خلال العقدين القادمين على أقل تقدير حتى يتحول هذا النمو المتسارع إلى واقع ملموس على الأرض.
إجراءات مقتَرَحة
ويقترح النجار بعض الإجراءات الداخلية لمواجهة أزمة المياه في مصر؛ كتغيير أنماط الري، وتقليل الفواقد الضخمة في النقل والتسرب والبخر وضرورة اتخاذ كافة الإجراءات للحفاظ على نوعية المياه ومطابقتها للمعايير الدولة حفاظا على صحة الإنسان وسلامة التربة والثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية التي يقترح الكاتب تغيير بعض أنواعها وإحلال أخرى أقل استهلاكا للمياه.
وبالنسبة للمشروعات التي تستطيع مصر من خلالها زيادة مخصصاتها المائية يقترح النجار تطوير المخرات الرئيسية الجامعة للسيول للحفاظ على 92% من مياه الأمطار التي تسقط على حوض نهر كاجيرا ؛ وتتبدد دون الاستفادة منها بينما لا يصل إلى مجرى النهر سوى 8% من هذه الإيرادات الهائلة. كما يقترح ردم مستنقعات بحيرة كيوجا وتحويلها إلى أراض زراعية خصبة لصالح أوغندا مع نقل المياه عبر قنوات مبطنة إلى نيل فيكتوريا، وكذلك تطوير قناة كازنكا التي تربط بين بحيرتي إدوارد وجورج المغذيتين لنهر سمليكي؛ وأخيرا إعادة العمل بمشروع قناة جونجلي المتوقف منذ سنوات والذي كان يهدف لإنقاذ نحو 17 مليار م3 من مياه بحر الجبل وبحر النعام قبل تبددها في مستنقعات جنوب السودان. أما فيما يتعلق بفكرة نقل مياه نهر الكونغو إلى نهر النيل والتي تقدر بنحو 112مليار م3 فيرى الكاتب أنها فكرة غير علمية وهي بمثابة أسطورة خادعة وهروب من بؤس الواقع إلى آفاق الخيال، كما اعتبر الترويج لهذه الفكرة إلهاء لمصر عن المطالبة بحقوقها المائية التي يتم سلبها بواسطة سد الخراب الإثيوبي.
ويستعرض النجار في الفصل الرابع من الكتاب أهم المشروعات المصرية لضبط النيل وذروتها السد العالي وهو المشروع الأكبر والأهم في مجال التنمية الشاملة في العالم خلال القرن العشرين.. أما الفصل الأخير فقد تناول فيه الكاتب الاستراتيجية المائية المصرية ومدى ملاءمتها وكفاءة تطبيقها مستعرضا أهم ملامح هذه الاستراتيجية وأهم الدراسات العلمية التي استندت إليها وأهم البدائل الآمنة التي يمكن الاستعانة بها وعلى رأسها المياه الجوفية ومعالجة مياه الصرف ومشروعات تحلية مياه البحر.
ويختتم النجار كتابه بالتأكيد على أن الأزمة تتطلب طرح أهداف ومشروعات محددة لتحقيق زيادات ملموسة كميا في الإيرادات المائية مع تقليل الفواقد وترشيد الاستهلاك مع موقف أكثر وضوحا وصلابة في مواجهة الصلف الإثيوبي حفاظا على الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل الذي هو باعث حضارتها وسر عظمتها.