تسبب قبول الخديوي توفيق مذكرة إنجلترا وفرنسا والتي تقضي بإقالة حكومة محمود سامي باشا البارودي وإبعاد أحمد عرابي باشا ورجاله عن مصر، في حالة من الغضب وصلت إلى إعلان عدد من ضباط الجيش التمرد على الخديوي وقراراته «ولو أدى الأمر إلى القتال».
لم يكن أمام حكومة البارودي إلا الإعلان عن استقالتها احتجاجا على موقف توفيق ورضوخه للضغوط الأجنبية التي وضعت مصر في مرتبة التابع للدولتين. قبل الخديوي استقالة الوزارة على الفور، وظن أنه بذلك تخلص من عرابي ورجاله، لكنه فوجئ بردود فعل كبار الضباط والعلماء والنواب والأعيان.
في صباح السبت 27 مايو 1882 عقد توفيق اجتماعا مع كبار رجال الدولة من نواب وأعيان وضباط لتشكيل حكومة جديدة خلفا لحكومة البارودي، وعرض رئاستها على عدد من أصحاب الخبرة لكنهم رفضوا وعلى رأسهم شريف باشا، فما كان من توفيق إلا أن يعلن تشكيل الوزارة برئاسته.
خلال الاجتماع حاول توفيق تبرير موافقته على مطالب انجلترا وفرنسا لكن الحضور تمسكوا برفضها، وطالبوا بأن يظل عرابي وزيرا للجهادية، وأنذروا الخديوي بأنه إذا مضت أثنتا عشرة ساعة ولم يرجع عرابي إلى منصبه كانوا غير مسئولين عما يحدث في البلاد.
ويذكر اللورد إيرل كرومر في كتابه «مصر الحديثة» إن سلطان باشا رئيس مجلس النواب ومعه بعض أعضاء المجلس أخبروا الخديوي في حضور القنصلين الفرنسي والإنجليزي أنه «ما لم يوافق على إعادة عرابي وزيرًا للجهادية فإن حياته يحفُّ بها الخطر»، وعلى الرغم من ذلك، أصر الخديوي على موقفه الرافض لعودة عرابي.
وفي مساء ذات اليوم الذي عقد فيه الخديوي اجتماعه، انعقد في منزل سلطان باشا اجتماع حاشد شهده كبار العلماء والنواب والأعيان، ويقول عرابي في مذكراته: «في ليلة السبت ٢٧ مايو سنة 1882 دعيت إلى منزل محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، فذهبت إليه ومعي إخوتي علي باشا فهمي، وعبد العال باشا حلمي، ومحمد بك عبيد، وغيرهم من الإخوان، فلما وصلنا المنزل المذكور وجدناه غاصًّا بأعضاء مجلس النواب ومعهم قاضي قضاة مصر الشيخ عبد الرحمن نافذ، والشيخ عبد الهادي الإبياري إمام المعية، وحصل الاتفاق على ملازمة الراحة والسكون وأن يرفض الخديوي لائحة الدولتين ويأمر برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية أو يُعزل عزلًا، وفي أثناء ذلك حضر بحديقة المنزل جماعة من الضباط والنبهاء من الملكية وغيرهم، وصاحوا بقولهم: اعزلوا الخديوي الذي دعا الأجانب للتدخل في أمرنا وتهديدنا بأساطيلهم».
خرج عرابي من منزل سلطان باشا ومعه رجاله وتوجه إلى منزل البارودي، وهناك التقى بعدد من الأعيان الذين حضروا لمناقشة الأزمة المرشحة للاشتعال، فالخديوي قرر الانقلاب على كل ما حققته الثورة العرابية التي أجبرته على إجراء انتخابات نيابية حرة والتصديق على أول دستور للبلاد «اللائحة الأساسية» ينتقص من صلاحياته، معتمدا على دعم انجلترا وفرنسا، وهذا الدعم لن يقف عند حدود السياسة فأساطيل الدولتين تقف قبالة الإسكندرية تهدد مصر.
التقى عرابي في منزل البارودي بعبد الله باشا فكري الذي كان أستاذًا أو مربيًا للخديوي في صغره، قال فكري باشا مخاطبا الحضور: إن قتلتموه؟ -يقصد توفيق- فرد عليه عرابي: «إننا لا نقتل أحدًا بغير حكم شرعي، فلا يليق بك أن تتكلم بهذا الكلام.»
تعقدت الأمور أكثر فأكثر، وهذا ما كانت تخطط له إنجلترا حتى تتخذ قرراها بضرب الإسكندرية، وحجتها في ذلك «تأييد سلطة الخديوي تجاه عرابي الثائر الذي تحركه الأطماع والمآرب الشخصية!».كما كانوا يزعمون زورا وبهتانا.
اشتدَّ خوف الأجانب في مصر حين فهموا أن الخديوي عاجز عن تأليف وزارة، فذهب وفد من قناصل الدول الأجنبية إلى عرابي في 28 مايو، وسرد عرابي هذا اللقاء في مذكراته وقال: «ولما تعاظم الخوف حضر لمنزلي جميع قناصل الدول ما عدا قنصلي إنجلترا وفرنسا يطلبون مني التأمين على رعاياهم فأجبتهم بأني قد استعفيْتُ ولا صفة لي تخوّلني تحمل هذه المسئولية العظيمة، فقالوا إن الجيش لا يخالف إرادتك، وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن على رعايانا وأنفسنا إلا بإعطائك لنا كلمة الشرف بحفظ رعايانا، فلأجل طمأنينتهم وتسكين روعهم كتبت تلغرافًا إلى جميع مراكز العسكرية بصفة أني رئيس الحزب الوطني أرغب إليهم فيه أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يحافظوا على راحة العموم، وخصوصًا رعايا الدول الأجنبية، وأن يعاملوا الجميع بحسن المعاملة وكمال المجاملة.»
قابل هؤلاء القناصل الخديوي، ورجوا منه أن يعيد عرابي إلى الجهادية حفظًا للأمن في مصر وتفاديًا للأخطار، أما العلماء والأعيان والنواب فقد اشتد قلقهم وقد مضى يومان والخديوي عاجز عن تشكيل الوزارة، وذهب سلطان باشا إلى سراي الإسماعيلية وتحدث مع الخديوي طويلًا، ولكنه وجده مصمما على موقفه الرافض للإبقاء على عرابي وزيرا للجهادية.
عاد سلطان باشا إلى سراي الإسماعيلية على رأس وفد مؤلف من حسن باشا الشريعي وسليمان أباظة وقابلوا الخديوي مجددا وعرضوا عليه أن يعيد عرابي إلى الوزارة؛ وبعد طول توسّلهم أجابهم الخديوي إلى طلبهم قائلًا: «بما أنكم أتيتم طالبين تقليد نظارة الجهادية لسعادة عرابي باشا حيث إنكم تظنون أن هذا التعيين يساعد على حفظ النظام فلا مانع من إجابتكم».
لكن إدوارد مالت القنصل الإنجليزي لم يرقه هذا الأمر، فكان مما افتراه أنه أبرق إلى حكومته يقول: «في هذا المساء توجه رؤساء رجال الدين وفيهم البطريرك، والحاخام، كما توجه النواب جميعًا والعلماء وغيرهم إلى الخديوي وسألوه أن يعيد عرابي وزيرًا للجهادية، فرفض الخديوي ولكنهم توسلوا إليه قائلين: لئن كان الخديوي مستعدًّا ليضحّي بحياته فينبغي ألا يضحي بحياتهم هم، وإن عرابي يهددهم جميعًا بالموت إن لم يحصلوا له على موافقة الخديوي، وإن حرس القصر قد تمت مضاعفته، وإن أوامر صدرت إليهم بأن يمنعوا مغادرته القصر طلبًا لرياضته المعتادة، وأن يطلقوا النار إذا حاول أن يشق طريقه بالقوة … ولم يجد الخديوي أمام هذه الظروف إلا الإذعان لا ليُنجي نفسه، بل لينقذ المدينة من سفك الدماء.»
المؤرخ محمود الخفيف نسخ ما ذكره مالت، وقال في كتابه «أحمد عرابي.. الزعيم المفترى عليه»: إلى هذا الحد يبلغ افتراء مالت فيصور توفيق سجينا في قصره ويجعله عرضة لأن يطلق حرسه النار عليه، وهذه رواية لم يوردها غير مالت بين جميع من كانت لهم صلة بهذا الموقف من القناصل ومن المؤرخين. ومن الأمور البديهية أنه لم يحجم عن أن ينقل مثل هذه الشائعات المفزعة إلى توفيق نفسه ليملأ قلبه رعبًا، ويوحي إليه أن يطلب النجدة.
وفي مساء 28 مايو، أصدر الخديوي أمرا إلى عرابي باشا بإعادته إلى وزارة الجهادية والبحرية هذا نصه: « ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استعفت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمن رأينا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكفيلة لحفظ الأمن العام على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا.»
ويقول عرابي في مذكراته: «حضر لي رئيس مجلس النواب سلطان باشا وحسين باشا الشريعي وسليمان باشا أباظة، وسلموني أمر الخديو القاضي برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية، وأخبروني بأنهم لما وفدوا على الخديوي وجدوا جميع القناصل في حضرته ما عدا قنصلي فرنسا وإنجلترا، وأنهم طلبوا من الخديوي صدور أمره برجوعي إلى نظارة الجهادية والبحرية لأجل اطمئنان العموم، فكان القناصل مع النواب على رأي واحد، وحينذاك فرح الضباط والجنود وجميع الوطنيين وسُرُّوا بذلك سرورًا عظيمًا».
أبرق مالت إلى حكومته يخبرها بما جرى، وزاد محرضا بأن: «مصر في حالة ذعر وأن الأوربيين يغادرون القاهرة أفواجًا، وأن الوزارات جميعًا ما عدا وزارة الجهادية تكاد تكون معطلة الأعمال.. وربما وقع تصادم في أي وقت بين المسلمين والمسيحيين».
وحذا كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية حذو صديقه مالت فأرسل إلى حكومته برقية جاء فيها «إن ضباط الجيش يحصلون بالقوة على توقيعات من الناس على عريضة بطلب عزل الخديوي، وإن رئيس مجلس النواب طلب إلى الأعضاء أن يستقروا في بيوتهم لكي يخلصهم من إرغام الجند إياهم على التوقيع.»، مضيفا: «إن كل يوم نتأخره يزيد روح العسكريين الخطرة كما يزيد تحديهم المتواصل للنظام.»
في 2 يونيو من عام 1882 قررت الحكومة العثمانية إيفاد مندوبٍ سامٍ إلى مصر لحلحلة الأزمة بين الخديوي والعرابيين ، وبالفعل وصل مصطفى باشا درويش على رأس وفد تركي رفيع المستوى في السابع من نفس الشهر إلى ميناء الإسكندرية.
ويقول جون نينيه عميد الجالية السويسرية في كتابه عن مذبحة الإسكندرية أن درويش كانت لديه أوامر سرية بأن يعمل على خلع توفيق إذا أمكنه ذلك توطئة لتعيين الأمير حليم باشا خلفا له.
أرسل الخديوي مندوبًا يستقبل الوفد العثماني في الميناء، وهو ذو الفقار باشا، وأرسل عرابي من ناحيته يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية، ووقع الخلاف بين المندوبين أثناء المقابلة، لكن درويش باشا استقبل كليهما بالبشاشة، ونزل وصحبه بسراي رأس التين، وفي اليوم التالي ركبوا قطارًا خاصًّا أقلهم إلى العاصمة، وقد عرجوا في الطريق على مدينة طنطا حيث زاروا مقام السيد أحمد البدوي، يتبركون بزيارته … ثم استأنفوا السفر إلى أن بلغوا العاصمة، ونزلوا بسراي الجزيرة التي أُعدت لإقامتهم حتى تنتهي مهمتهم، وبعد أن أخذوا راحتهم ذهبوا إلى سراي الإسماعيلية، فقابلهم الخديو بالترحاب ورد الزيارة للمندوب العثماني بسراي الجزيرة، على أن الخديوي لم يكتم عن درويش باشا استياءه من حسن مقابلته لمندوب عرابي، ومن لهجة الخطاب حين قابله بسراي الإسماعيلية فتظاهر درويش باشا بأنه جاء لتثبيت سلطة الخديوي.
ويضيف الخفيف: كانت خطة الوفد التركي أن يتظاهر لكلا الفريقين المتخاصمين (الخديو والعرابيين) أنه معه، فمن مظاهر تأييده للعرابيين أنه طلب نحو مائتي نيشان لضباط الجيش مكافأة لهم على ولائهم وإخلاصهم لـ«الذات الشاهانية»، وطلب لعرابي باشا النيشان المجيدي من الطبقة الأولى، فكان هذا علامة على رضا الآستانة عنه وعن مسلكه، على أن درويش باشا قد انتهى إلى الانضمام علانيةً للخديوي، واحتد على عدد من علماء الأزهر الذين اجتمعوا به وأبلغوه بأن بقاء توفيق مخالف للشريعة بعد أن تحالف مع الأعداء وسمح لهم بالتدخل في الشأن الداخلي المصري.
ظهر تحول درويش باشا إلى جانب الخديوي بعد أن نصح عرابي بالذهاب إلى الآستانة ليقابل السلطان، وأكد له أنه سيلقى منه كل رعاية وإكرام، لكن عرابي فطن إلى عواقب هذه النصيحة، وأنه قد لا يعود من الآستانة إذا هو ذهب إليها، فاعتذر للموفد العثماني بأن الأمة لن تسمح له بمغادرة البلاد.
ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن نصيحة درويش لم تكن صادرة عن نية حسنة، «ولكي نقدِّر مبلغ ما كان لحضور درويش باشا من الأثر، ومبلغ عجزه عن معالجة الموقف، يكفي أن نذكر أنه لم يكد يمضي على حضوره بضعة أيام حتى وقعت مذبحة الإسكندرية المشئومة، وذلك في ١١ يونيو سنة ١٨٨٢، فكانت إعلانًا رهيبًا بإخفاق مهمة المندوب العثماني، وقد حضر ضرب الإسكندرية يوم ١١ يوليو، ثم انقلب إلى الآستانة في ١٩ يوليو سنة ١٨٨٢ دون أن يعمل أي عمل لمنع وقوع هذه الكوارث».
في تلك الأجواء العاصفة استغلت انجلترا الموقف ودبرت لمذبحة الإسكندرية، وهو ما ستتناوله الحلقة القادمة من سلسلة «الطريق إلى الاحتلال الإنجليزي».
……………………………………………………………………….
المراجع:
«مذكرات عرابي» – أحمد عرابي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«الزعيم الثائر أحمد عرابي» – عبد الرحمن الرافعي
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«مصر الحديثة»- اللورد إيرل كرومر