الثورة والتحول من ولاية إلى دولة
أولاً: ثورة الشعب على المماليك (مارس 1804)
” إيش تاخد من تفليسي يا برديسي “
كان محمد على هو الرأس المدبر للحملة على خسرو باشا، ثم على أحمد باشا، ثم على علي باشا الجزائرلي، لكنه ظل بعيداً، وترك عثمان بك البرديسي يأتمر بعلي باشا الجزائرلي ويتولى قتله، فيتحمل وحده تبعة العصيان في نظر الباب العالي.
رجع محمد بك الألفي من إنجلترا إلى الاسكندرية في 12 فبراير 1804م، واثقاً من دعم الحكومة الإنجليزية له في الأستانة. وكان محمد على يحسب للألفي حساباً كبيراً، ويعده أقوى خصومه. لكن الحظ ساعده بأن سخر له عثمان بك البرديسي ليخلصه من خصمه، ذلك أن البرديسي داخله الخوف من أن يرى الألفي ينافسه في السلطة، مؤيدا من إحدى الدول العظمي فاعتزم التخلص منه، لكنه استطاع أن يذهب إلى الصعيد حيث أخذ يسعى في تكوين حزب يناصره، وهكذا انقسم المماليك، وكان ذلك من الأسباب التي عجلت بزوال دولتهم.
هذه الحوادث خدمت محمد على، لأن البرديسي بدأ يتحمل تبعات الحكم أمام الشعب، ذلك أن الحالة في القاهرة كانت تزداد تفاقماً بسبب تذمر الشعب من كثرة وقوع المظالم وإرهاقه بالضرائب. وزاد سوء الحال بنقص النيل (أغسطس 1803) فأثر هذا على الزراعة، واستولى الذعر على الناس في القاهرة وازدحموا على شراء الغلال، فارتفعت أسعارها وشح الخبز في الأسواق. واجتمع إلى هذا الضيق اعتداء المماليك والجنود الألبان على ما بأيدي الناس من الأموال والغلال والمتاع.
شكا الناس في نوفمبر 1803 إلى كبار العلماء من تكرار الاعتداءات فذهب السيد عمر مكرم نقيب الأشراف والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير إلى البكوات المماليك، وطلبوا إليهم منع اعتداء العساكر على الناس فوعدوهم بالتدخل ومع ذلك استمر الجند والمماليك في الاعتداء على الأهالي. وأخذ جو المدينة يكفهر منذراً بوقوع حوادث خطيرة. بدأت بمطالبة الجنود برواتبهم المتأخرة وذهبوا إلى دار عثمان بك البرديسي يصيحون ويتوعدون. ولم يكن محمد علي بعيداً عن تدبير هذه الحركة. استنجد البرديسي بصديقه محمد علي فتدخل في الأمر وهدأ حركة الجنود، في مقابل وعد من البرديسي بأن يدبر في بضعة أيام المال اللازم لدفع رواتبهم المتأخرة.
كانت خزينة الحكومة خاوية بسبب سوء الإدارة وتلف الأرض الزراعية وتعاقب الفتن. ففرض على تجار القاهرة ضريبة جديدة لكنه لم يحصل على المال الكافي لسد حاجة الجنود، فاعتزم في مارس 1804م فرض ضرائب على جميع العقارات موزعة على الملاك والمستأجرين. فكانت الضريبة الجديدة من أسباب ثورة القاهرة على المماليك. فاحتشدوا وجاهروا باستنكار هذه المظالم وامتناعهم عن دفع الضرائب، وخرج الناس من بيوتهم واحتشدوا في الشوارع حاملين الرايات والدفوف والطبول، وأخذوا يستمطرون اللعنات على الحكام المماليك الذين بيدهم الحل والعقد، فأخذت جموعهم تنادي ” إيش تاخد من تفليسي يا برديسي”. واتجهت جموع الناقمين إلى الأزهر لمقابلة المشايخ، والاحتجاج لديهم على الضريبة الجديدة، فقام المشايخ إلى الأمراء المماليك يطلبون إلغاءها.
كان احتشاد الجماهير وغضبهم وتجمهرهم نذيرا بالثورة، وأخذت روح الثورة تنتقل من حي إلى حي حتى عمت أنحاء المدينة، فاضطرب عثمان بك البرديسي أمام رؤية الشعب الثائر يستولي على الميادين والشوارع. وكانت الحركة موجهة ضد حكم المماليك من جهة، وضد مساوئ الجنود الأرناؤوط من جهة أخرى، فخشي محمد على أن تصيب الثورة جنوده بالأذى، فبادر إلى كشف المماليك أمام الشعب وجعلهم وحدهم هدفاً لغضب الجماهير، فجاهر بانضمامه إلى العلماء والمشايخ، ونزل في الشوارع واختلط بالجماهير الصاخبة، وقابل العلماء بالأزهر، وتعهد لهم بأن يبذل نفوذه لرفع هذه الضريبة. كما أوصى جنوده الأرناؤوط أن يحترموا الشعب. فاختلطوا بالناس وأعلنوا عدم رضاهم عن الضريبة وجاهروا أنهم إنما يطلبون رواتبهم من الحكومة لا من الأهالي. وانتهز محمد على فرصة غضب الشعب على المماليك وثورته عليهم وتوزع جنود المماليك في الأقاليم ليتخلص منهم، فأمر جنوده فهاجموا الموجودين بالقاهرة وحاصروا بيت إبراهيم بك وبيت عثمان بك البرديسي وبيوت باقي المماليك في أنحاء العاصمة، واستمر الحصار إلى اليوم التالي. فأسقط في يد المماليك ورأوا أنفسهم حيال قوتين، ثورة الأهالي من جهة، وجنود محمد على من جهة أخرى، فلم يجد عثمان بك وإبراهيم بك سبيلا سوى الفرار من القاهرة. وكان جنود المماليك يحتلون قلعة الجبل ويطلقون القنابل على الأزبكية فلما علموا بفرار زعمائهم، نزلوا من باب الجبل ولحقوا بإبراهيم بك في فراره. وتسلم جنود محمد على القلعة، وانتفض الشعب في رشيد ودمياط وسائر العواصم على الحكام المماليك، الذين ذهبوا إلى الوجه القبلي، ودالت دولتهم وانقضى حكمهم من البلاد، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. وفي اليوم التالي أُبطلت الضريبة التي كانت سبباً في اشتعال نار الثورة.
ثانياً: ثورة الشعب على الوالي التركي (مايو 1805)
” يا رب يا متجلي اهلك العثمللي”.
أصبحت الفرصة سانحة لمحمد على، ليحقق آماله ويتولى سلطة الحكم في مصر، فالمماليك دالت دولتهم، والقوة التركية تلاشت من البلاد، والوالي التركي خسرو باشا سجين في القلعة، وليس ثمة قوة عسكرية سوى قوة الأرناؤوط الألبان الذين تحت قيادته، ولكن محمد علي كان بعيد النظر، فرأى ألا يصل إلى سلطة الحكم بقوة الجند، وآثر أن يصل لتلك الغاية بإرادة الشعب من جهة، وبكسب موافقة الباب العالي من جهة أخرى. أي وبالمصطلحات المعاصرة من حصوله على الشرعية Legitimacy وهي الرضا والقبول الشعبي، والمشروعية Legality وهي النظام القانوني لتداول السلطة. فاختار محمد على خسرو باشا الوالي القديم، الذي كان سجينا منذ ثمانية أشهر، ليعيده إلى مركزه، وتولى هو إدارة الشؤون باسمه. فذهب إلى القلعة وفك إسار الباشا. ونزل به المدينة معلناً، أنه صاحب الولاية في البلاد، فازداد الشعب تعلقا بمحمد على عندما رأى فيه من التعفف، وعدم الرغبة في تولي سلطة الحكم. كما أن إعادته الوالي التركي إلى ولايته، يكسبه رضا الباب العالي ويبرهن له أنه لم يكن له يد في الفتن، التي أدت إلى عزل خسرو وقتل على باشا الجزائرلي.
على أن أقرباء طاهر باشا لم يرضوا بتعيين خسرو باشا، لأنهم لم ينسوا عداءه القديم لقريبهم، فثاروا عليه وعزلوه وأرسلوه إلى رشيد ومنها إلى الأستانة، فلم يعارضهم محمد علي في فعلهم. لكنه أصر على رغبته في أن يجعل الولاية في يد أحد الباشوات الأتراك، ولذلك سعى في تعيين خورشيد باشا محافظ الإسكندرية والياً على مصر، فاجتمع الشيوخ وزعماء الجند وأجمعت آراؤهم على تعيين خورشيد باشا والياً وتعيين محمد على قائمقام.
وصل خورشيد باشا إلى بولاق في أواخر مارس 1804م، وهو خامس من تقلد ولاية مصر في نحو سنتين، كما سبقت الإشارة. والواقع أن الوالي لم تكن سلطته تتعدى حدود القاهرة وكان دائماً عرضة لتمرد الجنود وعصيانهم.
لم يفقد المماليك أملهم في استعادة سلطتهم القديمة، بالرغم من طردهم من القاهرة وعواصم الوجه البحري، وتشتتهم في الوجه القبلي. فجمعوا شملهم وعادوا إلى الجيزة بقيادة عثمان بك البرديسي وإبراهيم بك يريدون فتح القاهرة، وأصبحت القاهرة في شبه حصار، واستمرت الحرب سجالاً بين المماليك وجنود الوالي إلى أن ارتدوا عن القاهرة، وكان فيضان النيل من أهم أسباب ارتدادهم لأن المياه غمرت البلاد التي كانوا مرابطين فيها، فاضطروا إلى الرحيل عنها، وانسحبوا ثانية إلى الصعيد.
وفي هذه الأثناء أخذ خورشيد باشا يدبر الوسائل للتخلص من محمد علي، فاستصدر من الأستانة فرماناً بعودة الألبانيين ورؤسائهم إلى بلادهم. فأدرك محمد على أن المقصود إبعاده عن مصر، فتظاهر بالإذعان وأعد عدته للرحيل، بيد أن العلماء لما علموا بأمر هذا الفرمان، طلبوا من محمد على البقاء بمصر، لما علموا فيه من العدل والاستقامة وردع الجنود عن الاعتداء على الأهالي. واضطربت القاهرة لنبأ هذا الرحيل، وأقفلت الأسواق والدكاكين، وكاد الأمن يضطرب، فقبل محمد على طلب العلماء وأعلن بقاءه إرضاء للرأي العام، فلما تحقق خورشيد باشا من عدول محمد على عن السفر، أدرك أن مكيدته قد أخفقت، واضطر للإذعان مؤقتا للأمر الواقع، وإرسال محمد على لمحاربة المماليك في الصعيد. فسار محمد على رأس جنوده الأرناؤوط في 17 أكتوبر 1804 يعاونه جيشان الأول بقيادة سلحدار الوالي والآخر بقيادة حسن باشا، فأخذت هذه القوات تطارد المماليك في الصعيد واستولت على المنيا في 15 مارس 1805م. وفي أثناء ذلك علم محمد على، أن خورشيد باشا طلب من الحكومة العثمانية إمداده بقوات جديدة، فوافقت وأرسلت جيشاً من الدِلاة Dells (وهي كلمة مشتقة دِلي وهي صفة تركية بمعنى مجنون أو متهور، وهم فرقة من فرسان الجيش العثماني). وكان هدف خورشيد أن يستعين بجيش الدلاة ليتغلب على محمد على. ولما وصل محمد علي نبأ وصول هذا الجيش، عجل بالعودة هو وزميله حسن باشا إلى القاهرة ليحبط سياسة خورشيد باشا قبل أن ترسخ قدم الدلاة في البلاد.
كان جيش الدلاة الذي جلبه خورشيد باشا مؤلفا من ثلاثة آلاف مقاتل من أردأ عناصر السلطنة العثمانية، فأخذوا يعيثون فساداً في الأرض، ويرتكبون الجرائم، ويعتدون على الأموال والأرزاق والأرواح. وقد اضطر الوالي إلى الإغضاء عن سيئاتهم ليستعين بهم على حرب محمد على. وقد سعى خورشيد باشا لاستمالة العلماء إليه لكنه أخفق في مسعاه.
قوة الشعب وقوة زعامته
وجد محمد على أن القوة التي يستطيع أن يكسب بها المعركة ويصل بها إلى الحكم هي قوة الشعب، فبالغ في استمالة علماء القاهرة وأعيانها واستنكار تصرفات الوالي. وكان الشعب يعتبر الوالي مسؤولاً عن فظائع الدلاة ومظالمهم، فأخذ تيار السخط العام ينحدر نحو الوالي، ولم يبق بين السخط والثورة، إلا أن تقع حادثة تشعل نار البركان.
وفي أول مايو 1805م اعتدى الجنود الدلاة على أهالي مصر القديمة، وأخرجوهم من بيوتهم، ونهبوا مساكنهم وأمتعتهم، وقتلوا بعض الأهالي الآمنين، فساد الهياج مصر القديمة، وتوجه جميع سكانها رجالاً ونساءً إلى جهة الجامع الأزهر، وانتشر خبر الاعتداء والهياج بسرعة البرق في أنحاء المدينة، واجتمع العلماء وذهبوا إلى الوالي وخاطبوه في وضع حد لفظائع الجنود الدلاة، فأصدر امراً للجنود بالخروج من بيوت الناس وتركها لأصحابها. ولكن الأمر كان صوريا ، لأن الجنود لم ينفذوه. فخوطب الوالي ثانية في الأمر، فطلب مهلة ثلاثة أيام ليرحل الجنود عن المدينة قاطبة. فلما علمت الجماهير اشتد غضبها وتضاعف سخطها.
وفي اليوم التالي 2 مايو عمت الثورة أنحاء العاصمة، فاجتمع العلماء بالأزهر وأضربوا عن إلقاء الدروس، وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين، فأدرك الوالي خطر الحالة فأرسل وكيله صحبة رئيس الإنكشارية إلى الأزهر لمقابلة العلماء، فلم يجدهم بالأزهر، فذهب إلى بيت الشيخ الشرقاوي وهناك حضر السيد عمر مكرم وزملاؤه، فأغلظوا له القول، ورفض العلماء أن يتدخلوا لإيقاف الهياج وطلبوا جلاء الجنود الدلاة عن المدينة، فانصرفا دون جدوى. فظل العلماء مُضربين عن إلقاء الدروس، وبقيت الدكاكين والأسواق مغلقة أكثر من أسبوع. وقد امتنع العلماء بعدها عن مقابلة الوالي . واغتنم محمد على هذه الفرصة لتحقيق مصلحته، ورأى بثاقب نظره أن يؤيدها ويناصر الشعب وزعماءه ليكسب تأييدهم، كما فعل في ثورة الشعب على حكم المماليك.
في هذه الأثناء حاول خورشيد باشا بذل جهوده لإبعاد محمد على، وقد نجح في مسعاه. إذ ورد فرمان سلطاني بتقليد محمد على ولاية جدة. ولم ينل خورشيد باشا من وراء هذا سوى الفشل، فإن محمد على قد علت مرتبته بتقلده الولاية، دون أن يبتعد عن الميدان أو يذهب إلى جدة. فقد انتهت الفترة التي حددها العلماء لجلاء الجنود الدلاة عن المدينة يوم11 مايو، وقد استطاع الوالي أن يبعد رهطاً منهم تهدئة للخواطر الثائرة، ولكن بقي منهم بالقاهرة نحو ألف وخمسمائة، وعلم زعماء الشعب أنهم ممتنعون عن الجلاء حتى تدفع رواتبهم. فأحدثت هذه الأنباء هياجاً، وفي صباح يوم 12 مايو اجتمع زعماء الشعب وقرروا الذهاب إلى المحكمة الكبرى (بيت القاضي) لاختصام الوالي وإصدار قراراتهم في مجلس الشرع. ولم تكد الجماهير تعلم بما استقر عليه رأي الزعماء، حتى احتشدت جموعهم واتجهت إلى دار المحكمة، وأقبلت الجموع من كل صوب، وبلغت عدتها أربعين ألف نسمة، فكان اجتماع هذا البحر الزاخر من الخلائق هو الثورة بعينها، وظهرت روح الشعب ناقمة على الوالي وعلى الحكم التركي. ويذكر الجبرتي أن صيحة الجماهير كانت: ” يا رب يا متجلي أهلك العثمللي”.
اجتمع زعماء الشعب في دار المحكمة، وطلبوا من القاضي أن يرسل باستدعاء وكلاء الوالي ليحضروا مجلس الشرع، فأرسل يستدعيهم على عجل، فحضروا، وعندما انعقد المجلس، عرضت العلماء مظلمة الشعب، وحرروا مطالبهم وهي:
- ألا تفرض من اليوم ضريبة على المدينة، إلا إذا أقرها العلماء وكبار الأعيان
- أن تجلو الجنود عن القاهرة وتنتقل حامية الجنود إلى الجيزة.
- ألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حاملا سلاحه.
- أن تعاد المواصلات في الحال بين القاهرة والوجه القبلي.
وهي المطالب التي أملاها وكلاء الشعب في اجتماع 12 مايو، وسلموا صورتها للقاضي، وقام وكلاء الوالي ليبلغوها إلى خورشيد باشا بالقلعة. وقد نشر هذه المطالب مسيو فولابل – وهو من علماء الحملة الفرنسية – وأطلق عليها “وثيقة الحقوق”، تشبيهاً بوثيقة إعلان الحقوق التي قررها البرلمان البريطاني عام 1688م.
ولما وصلت رسالة القاضي إلى خورشيد باشا، أرسل يستدعيه، ويستدعي السيد عمر مكرم والعلماء إلى القلعة ليتشاور معهم. فلم يلب أحد من زعماء الشعب دعوة الوالي، ولم يذهبوا إلى القلعة، فحنق عليهم وعد امتناعهم عن الذهاب إليه عصياناً، وقرر عدم إجابة المطالب التي قرروها. فاجتمع وكلاء الشعب من العلماء ونقباء الصناع في اليوم التالي (13مايو) بدار المحكمة ليتداولوا في الموقف، واحتشدت الجماهير في فناء المحكمة وحولها، يؤيدون وكلاءهم. وهنا اتفق نواب الشعب وأجمعوا رأيهم على عزل خورشيد باشا، وتعيين محمد علي والياً بدلا منه. وعندئذ قاموا وانتقلوا لدار محمد على لتنفيذ قرارهم، وأبلغوه ما اتفقوا عليه وقالوا:
” إننا لا نريد هذا الباشا والياً علينا ولابد من عزله من الولاية” ونادى السيد عمر مكرم نيابة عنهم وقال: ” إننا خلعناه من الولاية “. فقال محمد على: ” ومن ترضونه والياً “. فقال الجميع بصوت واحد: لا نرضى إلا بك وتكون والياً علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدل والخير “. فتظاهر محمد على بالتردد والامتناع، وقال أنه لا يستحق هذا المنصب، وأن هذا التعيين قد يمس حقوق السلطان، فألح عليه وكلاء الشعب، وقالوا : لقد اخترناك برأي الكافة، والعبرة برضا أهل البلاد، وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن يسير بالعدل وألا يُبرم أمراً إلا بمشورتهم. فقبل محمد علي ولاية الحكم ونهض السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه خلعة الولاية. وبذلك تمت مبايعة محمد على وأمروا أن ينادى به في أنحاء المدينة والياً لمصر.
و يعتبر هذا اليوم من الأيام التاريخية المعدودة في تاريخ الحركة الوطنية التي يختار فيها الشعب حاكمه، ويضع شروطاً عليه لإدارة الدولة.
أبلغ زعماء الشعب قراراتهم إلى خورشيد باشا، وذهب وفد منهم إلى القلعة لمقابلته، فأجابهم: ” أني مُولَّى من طرف السلطان فلا أعزل بأمر من الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة “. مما أدى إلى حتمية نشوب القتال بين الشعب والوالي. وأخذ الوالي يحصن القلعة ويتزود بالمؤن والذخيرة ويستعد للقتال لاستعادة المدينة، وأخذ زعماء الشعب من ناحيتهم يعدون الوسائل لحصار القلعة، لإجبار خورشيد باشا على التسليم، فدعوا الأهالي إلى حمل السلاح.
واحتشد الثائرون في ميدان الأزبكية حتى ملأوه، واعتزم الزعماء أن يعيدوا إبلاغ الوالي قرارهم، ويطلبوا إليه احترامه منعاً للفتنة وحقناً للدماء، فاجتمعوا في يوم 16 مايو بدار المحكمة وحرروا محضراً في شكل سؤال وجواب على نحو الفتاوى التي تصدر بخلع السلاطين في الأستانة، ووقعوا على المحضر وأرسلوه إلى الوالي ومستشاريه. فلم يقبله، واستمر الوالي على عناده فأخذ عمر مكرم يحرض الناس على الاجتماع والاستعداد للقتال، ولبى الأهالي الدعوة متطوعين حاملين ما وصلت إليه أيديهم من الأسلحة والعصي، وحمل السلاح كل قادر على حمله، وأقاموا المتاريس والاستحكامات بالقرب من القلعة وتحصنوا بها. واشتركت جميع طبقات الشعب في حمل السلاح على اختلاف أعمارهم ومراكزهم وطوائفهم، وبلغ عدد الثوار أربعين ألفاً.
وأرسل خورشيد باشا إلى القاضي يطلب الرواتب المتأخرة لجنوده، وقال في رسالته: “إن إقامته بالقلعة ليست ضررا على الرعية”، فأجابه القاضي: ” إن إقامتكم بالقلعة هي عين الضرر، فإنه حضر نحو أربعين ألف نفس بالمحكمة، طالبين نزولكم أو محاربتكم، فلا يمكننا دفع قيام هذا الجمهور، وهذه آخر المراسلات بيننا وبينكم والسلام”.
والتقى أحد مستشاري خورشيد بعمر مكرم، فوقع بينهما جدل طويل بصدد القرارات التي أصدرها زعماء الشعب، ومن جملة ما قاله اعتراضاً على تلك القرارات: كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله تعالى “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم؟”، فأجابه عمر مكرم على الفور: ” أولو الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم، وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة، وحتى الخليفة والسلطان إذا سار في الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه”، فقال مستشار خورشيد: ” وكيف تحاصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟ أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟”، فقال عمر مكرم: “قد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم لأنكم عصاة”.
في يوم 22 مايو 1805 ركب السيد عمر مكرم والمشايخ ومعهم جمع كثير من الناس إلى الأزبكية، وبعد ركوبهم حضر الجمع الكثير من العامة وطوائف الجنود، حتى غصت بهم الشوارع وذهبوا إلى الجامع الأزهر، ثم عادوا إلى الأزبكية. وكان الغرض من هذه الحركات وما تخللها من مجيء وذهاب إذكاء روح الحماسة في النفوس.
استمرت الحال كذلك إلى ليلة الجمعة 24 مايو 1805، وفي تلك الليلة بين المغرب والعشاء، خرج جنود الوالي من القلعة يريدون الاستيلاء على متاريس الثوار، فتبادل الفريقان إطلاق الرصاص إلى ما بعد العشاء، ثم ارتد جند الوالي على أعقابهم إلى داخل القلعة. ويقول الجبرتي إن العساكر الأرناؤوط من جنود محمد على كانوا يحاربون جنود الوالي بفتور مُراعين أنهم من أجناسهم لأن غالبهم منهم.
تجدد القتال يوم 27 مايو وشد السيد عمر مكرم في حصار القلعة، وكان الفتور قد تسرب إلى جنود الأرناؤوط، الذين يشاركون الثوار على المتاريس، وطلبوا رواتبهم من محمد على باشا فاستمهلهم حتى يسلم خورشيد باشا، فأبوا ولم يمتثلوا وتركوا المتاريس التي حول القلعة وتفرقوا. فذهب جماعة من الرعية وتمترسوا في مواضعهم. واستمر القتال بين الشعب و الوالي إلى أوائل شهر يوليه.
وفي غضون ذلك أشار محمد علي على السيد عمر مكرم، أن يأمر رجاله بنقل مدفع كبير، من طابية قنطرة الليمون، وتركيبه بالجبل لضرب أسوار القلعة، كي يكون الضرب أشد أثراً من المدافع التي كان الثوار يستعملونها في القتال. فجمع السيد عمر مكرم رجاله، وجلب الأبقار لجر هذا المدفع الثقيل، ونقلوه من مكانه إلى أن ركبوه عند باب الوزير، واستمروا في جره يومين كاملين. وحاول بعض جنود الوالي إن يهاجموا ذلك المدفع لتعطيله فردهم الثوار وضربوهم وقتلوا كبيرهم. وكانت مدافع القلعة تصوب نحو حي الأزهر، وبيت محمد على وبيت حسن باشا.
وظلت الحرب سجالاً بين الشعب والوالي، إلى أن جاء إلى القاهرة من الأستانة يوم 9 يوليه 1805 رسول، يحمل فرماناً يتضمن الخطاب لمحمد على باشا ” والي جدة سابقاً “بتثبيته والياً على مصر وأن خورشيد باشا معزول عن ولاية مصر. فتوقف الضرب من القلعة، وتوقف الثوار عن الضرب مع استمرار حصارهم إلى أن سلم خورشيد باشا القلعة يوم الإثنين 5 أغسطس 1805ونزل منها ثم رحل فكان آخر والي عثماني حكم مصر بإرادة الأستانة وأوامرها.