رؤى

مرج الصفر.. أرض المعارك

“مَرْجُ الصُّفَّر” مرج ذو موقع استراتيجي في سوريا على بعد نحوٍ من سبعة وعشرين كيلومترا من العاصمة السورية دمشق.. شاءت له الأقدار أن يكون موقع عدة معارك تاريخية ومصيرية ظلت عالقة في ذاكرة الأمة.

كانت المعركة الأولى التي شهدها هذا المرج في عهد الخلافة الراشدة وتحديدا في خلافة الصحابي الجليل عُمر بن الخطاب وفي أَوْجِ فتوح الشام التي بدأتها دولة الخلافة وهي في عنفوان فتوتها؛ ومواجهاتها البطولية للإمبراطورية الرومانية.

كان جيش المسلمين بقيادة القائد الفذِّ خالد بن الوليد قد حقق لتوه نصرا مؤزرا في ذلك العام (١٣ للهجرة الموافق ٦٣٤ للميلاد) على جيش الروم في معركة اليرموك؛ وهي المعركة التي دعت إمبراطور الروم “هرقل” إلى التقهقر، وتجميع ما تبقى من قواته في محاولة لوقف زحف المسلمين.

ويشير الكاتب السوري “محمد كرد علي” في كتابه “خطط الشام” إلى أنَّ الروم بعد أن عانوا من الهزيمة في اليرموك “جمعوا جمعا عظيما وأمدهم “هرقل” بمدد ثم لقيهم المسلمون  بمَرْجُ الصُّفَّر وذلك في مطلع شهر محرم من عام ١٤ للهجرة.

والتقى الجيشان في معركة حامية الوطيس جُرح وأصيب فيها نحو أربعة آلاف من جيش المسلمين إلا أن الخسائر في صفوف الروم كانت أكبر بكثير.

ويضيف “كُرْد” علي أن الروم انسحبوا وهم “لا يلوون على شيء” وتقدم المسلمون في إثر الجيش المنسحب، وتمكنوا من السيطرة على غُوْطَةِ دمشق ثم حاصروا دمشق نفسها حتى “أخذوا نصفها عنوة والنصف الأخر صلحاً”.

بعد هذه المعركة بقرون عديدة عادت مرج الصفر لتكون مسرحا لمعركة أخرى بين جيوش الغزاة من الصليبيين وبين المدافعين عن دمشق بقيادة حاكمها الأتابك السلجوقي ظهير الدين “طغتكين” وكان ذلك عام ٥١٩ للهجرة (١١٢٥ ميلاديه).

كان “طغتكين” يهدف إلى وقف عدوان ملك القدس الصليبي “بلدوين” على منطقة حوران؛ فاصطدم الجيشان عند مَرْجُ الصُّفَّر في معركة شهدت تقدم الصليبيين في بداية الأمر وتراجع السلاجقة؛ إلا أن لحاق الصليبيين بجيش السلاجقة المتراجع سبب انقلابا في أحداث المعركة، فبينما هم منشغلون في هذا اللحاق، ارتد بعض جند المسلمين، ونهبوا معسكر الصليبيين.. وحين عاد من تقدم من الصليبيين إلى معسكرهم وجدوا أموالهم منهوبة وجنودهم قتلى.

أما المعركة الثالثة التي شهدها مَرْجُ الصُّفَّر؛ فكانت أيضا بين غزاة من جهة ومدافعين من جهة أخرى، أما الغزاة فكانوا المغول هذه المرة والمدافعون كانوا من المماليك بقيادة سلطانهم الشاب الناصر محمد بن قلاوون.

تلاقت الجيوش المملوكية (المصرية والشامية) عند قريةٍ تسمّى “شِقْحَب” بالقرب من مَرْجُ الصُّفَّر في مطلع شهر رمضان من عام ٧٠٢ للهجرة (١٣٠٣ ميلاديه) وكان للفقيه ابن تيمية دور كبير في الإعداد الروحي لهذه المعركة فقد خرج من دمشق إلى موقع المعركة، واستقبل السلطان الناصر، واستطاع أن يقنع السلطان المتردد بالمواجهة بدلا من التراجع إلى مصر وحثه على الزحف لملاقاة العدو وسار معه يعظ الجنود ويشجعهم على القتال حتى أنه أفتى بجواز ألا يصوم الجنود في هذا اليوم طالما أنهم مقبلون على معركة فاصلة.

ويشير الإمام ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” إلى أنَّ السلطان ثَبُتَ في ميدان المعركة رغم مقتل عدد من كبار أمراء الجيش، ثم “نزل النصر على المسلمين” واستمرت المعركة حتى اليوم التالي.

وفي اليوم الثاني حاصر المماليك المغول؛ وهاجموا جيشهم بالسهام وتمكنوا من قتل عدد كبير منهم.. وفي اليوم الثالث تظاهر جيش المماليك بالسماح لعدوهم بالهروب من الحصار إلا أنهم هاجموهم من الخلف، وظلوا في أعقابهم حتى وصلوا نهر الفرات؛ فلم يقدر المغول على عبوره ومن عبر منهم هلك غرقا.

بلغ عدد قتلى المغول نحو عشرة آلاف قتيل.. في حين بلغ عدد أسراهم نحو عشرين ألفا؛ والأهم أنَّ هذه المعركة أنهت التهديد المغولي لدولة المماليك خاصة في الشام.

ومن اللافت حقا أنّ مَرْجُ الصُّفَّر بدا عبر تاريخه شاهدا على دورة كاملة، بدأها العرب والمسلمون فاتحين وناشرين لعقيدتهم وأنهوها مدافعين عن أمتهم وتاريخهم وثقافتهم في وجه غزاة همجيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock