رؤى

عنتر مسلَّم.. قاريءٌ منعه الأزهر

في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، انتشر صوت القارئ الشيخ عنتر مسلّم في جميع أنحاء مصر  انتشارا كبيرا ، ونافست شرائطه “المنسوخة” أشرطة الداعية المشهور عبد الحميد كشك والمطرب الشعبي أحمد عدوية، نجوم عصر الكاسيت وقتها.

ورغم الجماهيرية الكبيرة التي حققها الشيخ عنتر، فوجئ الناس بقرار من الأزهر قضى بمنع تداول شرائطه، وصادرتها “مباحث المصنفات الفنية” من الأسواق في حملة أمنية مكبرة، فظهر اسم القارئ في “صفحات الحوادث” بالجرائد اليومية، بدلا من  الصفحات الدينية، كسابقة هي الأولى من نوعها!

في تلك الأيام، كتب الكاتب الراحل محمود السعدني مقالاً في جريدة “أخبار اليوم”، نشره بعد ذلك في كتاب بعنوان “ألحان السماء”، قال فيه إن “مسلّم صاحب “طريقة فذة” في قراءة القرآن الكريم، لكن جواز سفره الوحيد لدخول دولة التلاوة هو صوته، فهو صاحب صوت جميل للغاية، واستطاع أن يفرض نفسه بموهبته على إذاعات العالم الإسلامي والعالم العربي، وبات صوته مادة يومية ثابتة في الإذاعة الإيرانية”.

محمود السعدني
محمود السعدني

ولكن السعدني، اعتبر أن “الشيخ عنتر استطاع أن ينمو بموهبته وحدها، دون دراسة أو معرفة معتبرة بعلم القراءات، ودون أن يتدرب على يد شيخ يلقنه أصول القراءة، فكان مجردا من التروس والدروع، وهي أدوات ضرورية إذا أراد المقاتل أن يواصل المعركة حتى النهاية”.

لم يكن مسلّم، وهو الكفيف الذي درس في الأزهر سبع سنوات ثم ترك الدراسة، يعلم أنه سيخوض – بمفرده- “معركة” حقيقية ضد المؤسسة الأزهرية، فقد كان عنتر “شيخ طريقة” متفردة في دولة التلاوة، ويتلو القرآن الكريم بأكثر من أربع قراءات في الرُبع الواحد، فاعتبر مشاهير قرّاء الإذاعة طريقته هذه نوعا من الهرطقة، وخرقاً للقواعد الصارمة التي لا مجال فيها للاجتهاد أو الإبداع، فشنوا عليه حرباً ضروساً امتدت ساحتها من الإسكندرية إلى أسوان.

جزاؤه الإعدام شنقاً

بناء على ذلك، تقاذفت الإشاعات اسم الشيخ عنتر على مستوى مصر، وبلغ الأمر حداً كبيراً من اللغط، حتى أُشيع أنه “يحرّف القرآن”. وانتشرت هذه الإشاعة الخطيرة بقوة في الشارع المصري آنذاك، وأثارت حفيظة المشايخ الكبار وغضب الرأي العام من الإسكندرية إلى قنا.

وعرفت الزوبعة طريقها إلى منابر المساجد، خاصة في ظل سيطرة السلفيين “الجهاديين” على قطاع كبير منها آنذاك، فهاجم الخطباء مسلّم بضراوة، وأعلن عضو في “الجماعة الإسلامية” بمدينة أبنوب في أسيوط، من فوق المنبر أن “المدعو الشيخ عنتر مسلم يغني القرآن، مثلما يغني المطرب أحمد عدوية أغنية سلامتها أم حسن”!

وتداخل الشيخ كشك، بعنف، في قضية مسلّم خلال خطبة جُمعة ألقاها من مسجده في منطقة “حدائق القبة”. قال كشك: “بلغني أنا مقرئا مشهورا في محافظة الغربية، يفتري على الله ورسوله وقرآنه كذبا، ليبتغي عرض الدنيا، فيقرأ قوله تعالى في سورة المائدة (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) يقرأه (فبعث الله غرابا يحفر في الأرض)”.

أضاف كشك بصوته الجهوري المتوعّد: “فإن كان قالها وهو جاهل فلا حرج عليه، وإن كان قالها وهو مسطول فلا حرج عليه. أمّا إن كان قالها عامدا متعمدا، فجزاؤه الإعدام شنقا”!

وبات السؤال الذي يطرح نفسه، بعد  سنوات طويلة من ذلك التاريخ، وبعد أن أصبح أبطال هذه المعركة  في ذمة الله، هو: ما حقيقة الشيخ عنتر، وهل هو – حقاً- مجرد قارئ جاهل انتشر على جناح الكاسيت في وقت ما؟ أم أنه القارئ “الوحدجّي” المتفرد، المُغرد خارج السرب؟

ممنوع من التداول

اختفى مسلّم وسقط من الذاكرة بعد وفاته عام 2002، وباتت سيرته فصلاً مجهولاً من فصول التلاوة المصرية ، بعد أن مُنعت أشرطته من التداول التجاري. لكن الغريب في الأمر أن هذه الشرائط عرفت طريقها – رغم المنع- إلى كل قارات العالم، وباتت تُباع على أسوار “المسجد الأزرق” في مزار شريف، وتنطلق من محلات بيع الكاسيت في لاهور، وتُسمع في حضرات الطريقة الصوفية النقشبندّية بإسطنبول، حتى أصبحت تلك هي السابقة الأولى من نوعها: أن يشتهر قارئ مصري في بلاد لا تعرف اللغة العربية مثل أفغانستان وباكستان وتركيا، بينما هو شبه مجهول في بلده!

ظهرت تسجيلات الشيخ عنتر أولاً في إيران، بعد أن استولى المُلالي – المتشددون- على سُدة الحكم. وهو ما يعني أن أي شخص عاقل سيجد نفسه أمام لغز غير مفهوم بالمرة: كيف يمنع الأزهر “الوسطى” المتنوّر أشرطة هذا الشيخ الغريب، بينما يُسمح بها في إيران المتزمتة؟

لم يكن مسموحاً بتداول أشرطة الشيخ عنتر في محال “البازار الكبير” في طهران، وجميع أنحاء البلاد، فحسب، بل لقد خصصت له الإذاعة الإيرانية فقرة سهرة الثابتة على إذاعة طهران في التاسعة مساء كل يوم. وتم، بعد ذلك، إطلاق محطة فضائية لا تذيع سوى تسجيلاته فقط. لذلك عُرف الشيخ عنتر على نطاق واسع في دول شرق ووسط آسيا، والجمهوريات الروسية المسلمة وباكستان وأفغانستان، باسم “الشيخ الإيراني”!

وتصحيحاً لهذا الخطأ، وفي سياق السجال الإيراني- العراقي الثقافي المستمر منذ حرب الثماني سنوات (1980- 1988)، نشر بعض السمّيعة العراقيين للشيخ عنتر بعض التسجيلات على موقع “يوتيوب” عام 2007، ووضعوا العلم العراقي في خلفية الفيديوهات، فظن الكثيرون في العالميّن العربي والإسلامي، أنه قارئ عراقي.

ويقول الأكاديمي الباكستاني علي أكبر خان، أستاذ اللغة الإنجليزية بـ “الكلية الحكومية للدراسات العليا” في إقليم خيبر، إن الاعتقاد الشائع هناك على نطاق واسع، أن شرائط عنتر كانت محظورة في مصر لأنه – وهو المكفوف- “طعن” شخصاً ما، ومُنع بعدها من التلاوة!

التغريد خارج السرب

كانت طريقة مسلّم في القراءة جديدة من نوعها تماما، فهو يقرأ بضع آيات متصلة من أي موضع في السورة، لمدة نحو خمس دقائق، ثم يقطع التلاوة بالبسملة من جديد، ويعود ليبدأ من الموضع نفسه، فيردد الآية الواحدة ثلاث أو أربع مرات بقراءات مختلفة، وكأن لكل آية رجع صدى مختلفا في كل مرة عبر الفضاء المفتوح، حتى يركب المقام فينطلق من أدنى قرارات الصوت إلى أعالي الجوابات، ثم يصل إلى “القفلة العنترية” غير المتوقعة بالمرة، فقد تصعد فجأة إلى أعلى، وقد تنزل من شاهق.

واتسعت شهرة عنتر سنة بعد أخرى. وبدءاً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، أصبح الرجل معروفاً في جميع أنحاء مصر، ولفتت جماهيريته الواسعة أنظار الناس، لكن أسلوبه الغريب على الأذن المصرية، وطريقته الخارجة عن المألوف، أحدثا نوعاً من الصدمة والاستنكار في أوساط بعض مشاهير القرّاء والأزهريين، فتحوّل الشيخ إلى قضية رأي عام.

في البداية، واجه عنتر عدداً من الاتهامات التي أطلقها ضده بعض القرّاء وعلماء الأزهر، منها أنه يقرأ بروايات لا وجود لها في الكتب المعتبرة لعلم القراءات القرآنية، أي أنه يقرأ بلا أي سند علمي، وهي تهمة خطيرة في عُرف المشتغلين بالتلاوة، قد تودي بصاحبها إلى السجن ، كما لفتت قضية الشيخ أقلام عدد من الكُتّاب والباحثين والمعلقين، وقتها، حتى وصلت توابعها إلى جميع أوساط المجتمع المصري، وظهرت في بريد الصحف اليومية، فنشر “بريد الأخبار” ذات يوم رسالة من أستاذ في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، كان عنوانها “انقذوا القرآن من المدعو عنتر”!

ومع ذلك، ظل هناك دائماً تضارب شديد فيما كُتب عن مسلّم، سواء في الجرائد أو الكتب أو على الإنترنت، على قلته، ما بين فريق صغير اعتبره “أعجوبة زمانه”، وفريق آخر أكثر عدداً وعتاداً ثقافياً راح يطعن في الشيخ بكل الطرق.

وإلى ذلك، يقول القارئ العراقي حسنين الحلو :  “كان للشيخ الجليل مميزات انفرد بها عن غيره من القرّاء، منها أن انتقالاته المقامية كانت دائما سليمة، وأنه صاحب فنيّات خاصة تمتع بها حصرياً دون معاصريه، بما في ذلك هؤلاء القراّء المعدودين في عداد الكبار ممن حققوا شهرة فاقت شهرته، فقد كان قالبه الفني جديداً تماماً، ولم يُسمع قارئ بهذه الطريقة الفريدة من قبل”.

عنتر مسلمويقول القارئ حلمي الجمل: “عاصرت الشيخ عنتر على مدار عدة سنوات في أُخريات حياته، وسمعته وقرأت أمامه. وكنا نتناقش أنا وزملائي القرّاء الشبان معه في الجلسات، ووجدناه مُطلعاً على كثير من الكتب في علوم القراءات، بما في ذلك مخطوطات لم نكن نعرفها، بل نسمع بها فقط. لذلك لم يكن الرجل يقرأ عن جهل، كما قيل، بل عن علم واسع ودراية تامة. ولمّا كنا نحاوره ونعزو بعض وجوه القراءات إلى اللغة العربية، بما في ذلك الألفاظ المهجورة التي لا يعرفها سوى قلة نادرة من اللغويين، كنا نجده عالماً لا يُبارى في غريب اللغة. وكان الرجل متوقد الذهن، فحينما كنا نأتي بتوجيه لغوي ما، يأتي هو بتوجيه آخر، ونظل نتناقش معه بالساعات، فلا نحيط بعلمه الواسع أبدا، ونتأكد أن هناك أناسا يفترون على الشيخ، خاصة أنه كان موهوبا، وهبه الله من التمكّن والاقتدار الشيء الكثير، ما أثار غيرة بعض القرّاء الذين كانوا أشهر منه، لكنهم أقل علماً وموهبة ومقدرة”.

يضيف الجمل: “ولكن مسلّم كان يقرأ أحيانا بقراءات، وإن وافقت العربية، ورسم المصحف، إلّا أنها شاذة وليست متواترة، يعني مثلا كلمة “حُشِرت” في سورة التكوير كان يقرأها “حُشِّرت”، وقد بحثنا عنها في كتب القراءات العشر الصغرى والكبرى، فلم نجد لها أصلا. لقد كان هنا يقرأ القياس على ما سبق من كلمات في السورة نفسها “كُوِّرَت” و”سُيِّرَت” و”عُطِّلَت”، وهو أمر ممنوع شرعا، لأن القراءة مسألة توقيفية وليست اجتهادية، أي تُقال كما نقلها الأئمة وتلقيناها عنهم، لا نزيد عن ذلك ولا نُنقص”.

من جهته، يقول القارئ أحمد نعينع: “كنت أقابل الشيخ عنتر في المحافل والمناسبات، وقرأت معه مرارا في مدن وقرى عدد كبير من محافظات الدلتا، منها الغربية والمنوفية وكفر الشيخ، بعد سنوات من الجدال الكبير الذي أثاره في كل أنحاء مصر. وكنت أظنه مهيبا أو “مخيفا” كما صوّره بعضهم، خاصة  أنه كان  يتمتع بهيبة كبيرة في أوساط القرّاء، ولكنني وجدت الرجل خلال الجلسات التي جمعتني به شخصيا بسيطا، متواضعا تواضع العلماء، قليل الكلام، لا يطعن في شخص أحد من زملائه المقرئين أبدا. أما عن صوته فكان جميلا للغاية، ومخارج حروفه القرآنية لامعة مثل سلاسل الذهب الصافي، يعني الحرف حرف، زمنه مضبوط، ومخرجه مضبوط. أمّا عن مسألة القراءات، فإن كان أصاب في قراءته فله أجر المُصيب. وإن كان أخطأ فله ثواب المجتهد. وقديما قيل: ما عجبت للمخطئ كيف أخطأ، بل عجبت للمُصيب كيف أصاب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock