رؤى

قبل العدوان بشهر.. قراءة في خطاب كاشف لناصر

في الثاني من مايو عام1967، ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابا مطولا في منطقة شبرا الخيمة بمناسبة عيد العمال.. تناول الرئيس في هذا الخطاب العديد من القضايا الهامة بمنتهى الصراحة والوضوح كاشفا عن حجم التآمر الدولي والإقليمي ضد مصر بسبب مواقفها الداعمة لحركات التحرر في العالم ورغبتها في انتاج واقع جديد تستقل فيه بقرارها بعيدا عن دوائر التبعية والأحلاف.

بدأ الرئيس حديثه عن منطقة شبرا الخيمة وكيف نشأت وكيف عاش العمال فيها ظروفا بالغة الصعوبة تحت نير الاستغلال وسطوته.. فبينما كان المستغلون من الأجانب والمتمصرين وبعض المصريين يجنون أرباحا بالملايين؛ كان المئات من العمال يسقطون صرعى الأمراض والتكدس في الغرف الرطبة والعمل لساعات طويلة يوميا نظير قروش زهيدة يدفعها لهم كبار المستغلين الذين وصلت أرباح أحدهم لمبلغ ستة ملايين جنيه في عدة سنوات برغم أنه كان قد بدأ مشروعه بقرض بنكي قدره 10 آلاف جنيه.. وفق ما جاء في أوراق لجنة التأميم.

تناول الرئيس بعد ذلك خطة التطوير التي اعتمدتها الدولة للمنطقة لتصبح من أكبر المناطق الصناعية بقوة 140ألف عامل 120 ألف منهم تحت مظلة التأمينات؛ كما زادت أجور العمال بالمنطقة من مليون جنيه عام52 إلى 23 مليون جنيه عام 66.. موضحا أن التطوير بدأ بعد معركة 56 التي بلورت الأهداف العظيمة للنضال السياسي وربطت بينه وبين النضال الاجتماعي.

وبالنظر إلى حجم الإنجاز الذي تم في هذه المنطقة على مدى عقد ونصف يمكن لنا أن نتبين حجم المعوقات التي تم التغلب عليها في ظل تربص قوى الرجعية في الداخل (جماعة الإخوان المسلمين) والنظم الرجعية في المنطقة التي ارتضى حكامها لعب أدوار العملاء في محاولات دؤوبة لكسر الثورة المصرية بطرق شتى وبإنفاق باذخ للدرجة التي وصلت بهم لتوزيع كتيبات على الحجيج تصم النظام المصري ورئيسه بأبشع التهم.. وليس هذا فحسب بل كان الهجوم يحدث من فوق المنابر.. ما جعل الكثيرين من الحجاج المصريين يدخلون في مشادات مع هؤلاء الخطباء؛ وقد تطور الأمر أكثر من مرة وتم القبض على بعض الحجاج المصريين.

جمال عبد الناصر والمصانعكان هؤلاء العملاء كما بيَّن عبد الناصر يتحركون كأدوات في أيدي قوى الطغيان الدولية التي حاولت على مدى عقد ونصف إثناء مصر عن المضي في طريق الاستقلال الحقيقي بشتى الطرق حتى تقبل بوضع يسمح بوجود النفوذ الاجنبي ويرتضي قيود الخارج والسيطرة الاقتصادية الخارجية أو الانضواء تحت راية أحلاف استعمارية كحلف بغداد.. أو أن تقبل بوجود قواعد عسكرية على أراضيها.. لكن ما حدث كان خلاف ذلك تماما لدرجة أن وزير الخارجية الأمريكي اشتكى من الدور الذي تلعبه مصر في مناصرة حركات التحرر في أمريكا اللاتينية التي تعتبرها الولايات المتحدة الحديقة الخلفية لها.. ولم ينف عبد الناصر هذا الدور صراحة لكنه صرّح ردا على ذلك بأن أمريكا ترغب في أن يعمل عملاؤها على تنفيذ مخططاتها دون إزعاج.. ونحن نمثل مصدر هذا الإزعاج.. والمطلوب منا أن نتوقف، فهل نستجيب؟!.

كان هذ الدور الرخيص الذي أريد لمصر أن تلعبه بعد ثورتها المجيدة أحط بكثير من بقائها تحت الاستعمار المباشر كما أوضح الرئيس في خطابه. فكان العبث في الداخل من خلال العملاء الذي سعوا لعودة الإقطاع – هنا يشير الرئيس إلى استشهاد صلاح حسين في كمشيش على يد قوى الإقطاع بالقرب من دائرة أنور السادات- بالإضافة إلى المحاولات المستمرة لإجهاض التجربة الاقتصادية التي أيقن عبد الناصر مبكرا أنها القوة الحقيقية التي ستدعم الدور الطليعي للثورة المصرية وستسهم في تطور الأمة العربية كلها.. وقد مارست أمريكا ضغوطا اقتصادية عديدة ولوحت بقطع المعونة التي أوضح الرئيس أنها تنفق بطريقة لا تعود على مصر بأي نفع بل إن أمريكا هي المستفيد من المعونة التي تتضمن ثمن ما تحصل عليه مصر من قمح أمريكي.. وأضاف أن مصر على استعداد تام للتخلي عن هذه المعونة أو الامتناع عن سداد أقساط القروض إذا لزم الامر.

استفاض الرئيس عبد الناصر بعد ذلك في شرح ما تقوم به الثورة المضادة في الداخل والخارج.. للدرجة التي وصلت حد التبجح وجعلت بعض الأنظمة الرجعية تعلن صراحة عن عدم رغبتها في رحيل الاحتلال البريطاني عن الجنوب العربي في تطابق واضح للمواقف بين فيصل وحسين وأشكول رئيس الوزراء الصهيوني دون مواربة حسب تعبير الرئيس.. في حال أنهم كانوا يطلبون من مصر التوقف عن دعم النظام الجمهوري في شمال اليمن.. ويتساءل عبد الناصر كيف لهؤلاء أن يطالبونا بالتوقف عن دعم الثورة اليمنية في حال أنهم لا يتوقفون عن دعم الثورة المضادة في مصر متمثلة في أكبر حزب رجعي في مصر وهو جماعة الإخوان المسلمين.. ويضيف أن الثورة لم تتهاون في التصدي لتلك المحاولات المستميتة للثورة المضادة منذ أعلن بعض السياسيين أثناء العدوان الثلاثي عن رغبتهم في عودة الاحتلال الإنجليزي من خلال بيان يدعو للاستسلام أرادوا تسليمه لمجلس رئاسة الوزراء وكانت أوامر عبد الناصر المباشرة إطلاق الرصاص عليهم فور ظهورهم في مجلس الوزراء.. لكن أحدا منهم لم يجرؤ على المجيء.. ثم عادوا للظهور مجددا بعد الانفصال عن سوريا محاولين استثمار حالة الإحباط التي صاحبت الانفصال لكن أوهامهم ذهبت أدراج الرياح.. وبقيت عناصرهم كامنة في العديد من القطاعات تطل برؤوسها كلما سنحت الفرصة.

يفضح عبد الناصر بعد ذلك الاستعمار وعملاءه في المنطقة عندما أرادوا استخدام الدين كوسيلة لإسقاط الثورة المصرية  مروجين لفكرة الحلف الإسلامي مع إنفاق هائل من خزينة المملكة العربية.. واستخدام الفكرة كغطاء جيد للرجعيين في الداخل لتسهيل وصول الدعم المادي.. وهنا يتساءل الرئيس عن مدى إمكانية نجاح المدفوعين خارجيا بالمال النفطي في الترويج للأفكار المشبوهة؟.

عبد الناصر

وقد تزامن هذا الإنفاق السعودي مع دعاية سوداء لتشويه الدور المصري في دعم القضية الفلسطينية والانتقاص من هذا الدور في حين أن عداءهم للكيان الصهيوني هو عداء مجاني وشعاراتي دون إنفاق ريال واحد. نفس الخط كان الملك حسين يعتمده في الأردن.. مزايدة على الدور المصري في دعم سوريا في مواجهاتها المباشرة مع الكيان الصهيوني بينما الأردن لم تفعل شيئا دعما لسورية وبيتهما حدود مشتركة. وعندما أسقط الصهاينة ثلاث طائرات سورية على الأراضي الأردنية بادرت إذاعاتهم بإعلان الخبر قبل الإذاعة السورية؛ متسائلة في خبث عن أسباب عدم تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا مع كثير من اللمز عن عدم تدخل الطائرات المصرية في المعركة الجوية التي حدثت برغم علمهم أن الطائرات المصرية لا تستطيع الطيران هذه المسافة.. والحقيقة أن الجانب المصري قدم كل الدعم وفقا للإمكانات المتاحة.. استثمار هذه المعركة من جانب الملك حسين كان صورة من أبشع صور العمالة حسب رؤية الرئيس عبد الناصر.

يضع الرئيس جمال حدا فاصلا بين ما يجب أن تتخذه مصر من مواقف داعمة للقوى الثورية في العالم العربي، مع ضرورة التصدي لعملاء الاستعمار من حكام الممالك الرجعية.. موضحا أن من يطالبون بالتهدئة مع عملاء الاستعمار لا يدركون أن الجمع بين كلا الموقفين مستحيل عمليا؛ لأن التهدئة مع العملاء تضرب التضامن العربي في الصميم.. هذا الرفض للمواقف المتميعة يرتكز على عدة مفاهيم تأسيسية تؤكد أن السياسة التي تمارس بمعزل عن الأخلاق هي شكل من أشكال الانحطاط؛ لأن الجماهير من حقها أن تعي وتعرف من هم أعداؤها الحقيقيون.. أما السياسة التي تعتمد محاباة العملاء والانكفاء أمام الأعداء فهي سياسة معادية لمصالح الأمة مهما كانت المبررات.

ويؤكد عبد الناصر على الدور التخريبي لقوى الرجعية حتى فيما يصدر عن الجامعة العربية من قرارات ضاربا المثل بما حدث قبل عامين عام 65 عندما اعترفت ألمانيا الغربية بالدولة اللقيطة، وكان الرد المناسب على هذا الأمر هو اعتراف الدول العربية بألمانيا الشرقية.. وعند عرض الأمر على الجامعة العربية تعذرت السعودية بأنها لا تقيم علاقات دبلوماسية مع دول شيوعية، لتجهض هذا التوجه ويكون القرار قطع العلاقات مع ألمانيا الغربية مع الترويج لدعاية سوداء تستهدف النيل من مصر بالزعم أن الضغط المصري على ألمانيا كان بهدف الحصول على قروض.

كل هذه الحقائق التي كشف عنها الرئيس عبد الناصر في هذا الخطاب لم تحل دون وقوع الهزيمة بعد نحو شهر برغم أن الرئيس كان قد التقى بالمشير عامر وكبار القادة وأبلغهم تفصيليا بما ينوي الصهاينة القيام به في اجتماع مسجل يوم 2يونيو، لكن القيادة العسكرية لم تأخذ الأمر مأخذ الجد.

وتبقى النقاط الأساسية التي أثارها الرئيس عبد الناصر في هذا الخطاب صالحة لأن تكون بمثابة استراتيجية ثابتة لا نجاة لمصر دونها.. فلا بديل عن النهضة الاقتصادية القائمة على التصنيع والزراعة، ولابديل عن استقلال القرار الوطني، ولابديل عن قيام مصر بدورها الداعم للقضايا العادلة إقليميا ودوليا وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولا بديل عن الحذر في التعامل مع الرجعية العربية التي كانت ومازالت أداة طيعة في يد أعداء الأمة، ولا بديل عن توعية الجماهير بكل ما يحدث داخليا وخارجيا لأن المواجهة مع قوى البغي تعتمد على قوة وعي الجماهير في المقام الأول.. ذلك الوعي الذي تنكسر على صخرته كل دعاوى التخاذل والانهزامية.

ولعلنا بهذه القراءة نحيي الدعوة إلى التناول الموضوعي للتجربة الناصرية في الثورة والحكم بعيدا عن السباب والترويج للأكاذيب التي تطفح بها صفاحات مواقع التواصل الاجتماعي في هذه المناسبة ومناسبات أخرى. فلسنا ضد النقد البنّاء الذي يقيم التجارب الكبيرة على أسس علمية وموضوعية ارتكازا إلى حقائق التاريخ  من أجل الاستفادة منها بعيدا عن تلك الحملات الموتورة التي تحركها الكراهية العمياء والحقد الأسود والرغبة في التشويه ولو بتزييف الحقائق؛ انتصارا لأوهام ما زالت تسكر رؤوس البعض رغم مرور نصف قرن ويزيد على انقضاء التجربة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker