ثقافة

مُظَفَّر النَّوَّاب.. طَرِيْدُ الأَنْظِمَةِ الـمَخْتَبِئ في قَلْبِ أُمَّتِهِ

ليغفر لنا مُظَفَّر النَّوَّاب من عليائه أننا نجترئ على مقامه بالكتابة فيما يشبه الرثاء، ولا يُقارف البكاء.. لأن مُظَفَّر النَّوَّاب الذي عرفته الزنازين يافعا؛ فلم تنل منه بل نال منها.. وكان صوته لجدرانها مطرقةَ صدقٍ وإيمان؛ زلزلت أسوار سجن “الحِلَّة” الذي شهد هروبه البطولي عبر نفق حفرته أناملُ القصيدة الساكنة في الروح الطليق.

من بغداد إلى بيروت إلى دمشق وبعض عواصم أوروبا ينتقل شاعرنا الذي صهرته التجارب، وغرِّبته المنافي.. فكانت قلوب الشعوب العربية مرافئه الآمنة.. في تلك المطاردات التي استغرقت العمر، وانتهبت السنين انتهابا؛ لا ينال من وعي المناضل، ولا من قدرته على مواصلة المسير نحو منشوده الكفاحي.. فليست التجربة –على قسوتها– بحجم صبر  مُظَفَّر، وإخلاصه لمبدئه.

“وآهٍ من العمر بين الفنادق لا يستريح*** أرحني قليلا فإني بدهري جريح”.

لكن تغرُّبه الدائم يحمله حَمْلا على الاعتراف أنه تحت وطأة الترحال المستمر أصبح يستوطن تفاصيل ذاكرته المتعبة:

هذي الحقيبة وحدها وطني*** ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
أصاحب الليل مصلوبا على أملٍ*** ألا أموت غريبا ميتة الشبح.

تعتّقت تلك الذكريات التي باغتت مُظَفَّر بأسنتها اللاهبة؛ حين واجه حكم الإعدام فرأى نهاية عاجلة جديدة تلوح له؛ ذكّرته بذلك اليوم الذي خرج فيه طفلا من قصر أبيه جانب الكرخ؛ ليلهو قليلا على شاطئ دجلة؛ في “شريعة النَّوَّاب” فكاد يغرق، لولا أن أنقذه بعض المارة وأعادوه إلى القصر فاقدا الوعي.. فلم تصبح مواجهة الموت –مبكرا جدا– لدى الشاعر أمرا ذا بال.

كان من الممكن أن تستمر حياة النَّوَّاب هادئة هانئة؛ لكن إرث الجد الشهيد الإمام موسى الكاظم، ومعارك الأجداد في الهند ضد المحتل الإنجليزي، لم تمثّل لـمُظَفَّر حمِلا يمكن التخفف منه.. صاغ التاريخ المجيد المعمّد بالدم روحه، واعتملت النفس بتلك الآلام التي تحرم صاحبها لذة العيش؛ إذا هو أحجم عن وضع قربانه على مذبح الفداء لإنسانيته ووطنه وأمته.. فكانت القصيدة له سبيلَ وخزٍ لضمائر أمة غَفَتْ على الضيم، واستنامت لأعدائها حتى غرقت في أوحال الاستسلام والاستكانة والهوان.

القُدْسُ عَرُوسُ عُرُوبَتِكُم
فلِمَاذَا أَدْخَلْتُمْ كُلَّ زُنَاةِ الليلِ إلى حُجْرِتِهَا؟؟
وَوَقَفْتُم تَسْتَمِعُونَ وَرَاءَ البابِ لِصَرَخَاتِ بَكَارِتِها
وَسَحَبْتُم كُلَّ خَنَاجِركُم
وَتَنَافَختُم شَرفًا
وَصَرَخْتُم فِيهَا أنْ تَسْكُتَ صَونًا لِلعِرضِ
فَمَا أَشْرَفَكُم!

عندما عَرَّت تلك القصيدة حقيقة المتاجرين بالجرح العربي الممتد عبر فلسطين إلى قلب القُدس.. اُتهم النَّوَّاب بالبذاءة والتطاول، وبأنه هبط بالشعر –وهو أحد فرسانه– إلى درك الركاكة والمباشرة.. ولم يكن مُظَفَّر في حاجة إلى الدفاع عن نفسه، فقد كان الواقع العربي وما زال؛ أبشع ألف ألف مرة من أن تجرح بشاعته ألف قصيدة مدمّاة بعذابات شاعر كَمُظَفَّر.

لم يقترف النَّوَّاب جريرة الاقتراب من أي نظام عربي، حتى عندما وُجّهت إليه دعوة رسمية من النظام السوري بعد وصوله دمشق، ليحل ضيفا في قصر الرئاسة، اعتذر عن قبول الدعوة؛ ثم سارع بالمغادرة إلى القاهرة ومنها إلى إريتريا ليعايش تجربة الثورة هناك، ثم إلى ثورة ظفار في عُمان.. وعندما عاد إلى مسكنه في بيروت عام 1976، كان اللصوص قد حملوا كل ما فيه من أثاث وأوراق ووثائق، ولوحات، ومضوا.. فسارع إلى مغادرة لبنان إلى اليونان.. ومنها إلى فرنسا بقصد دراسة الماجستير في “الباراسيكولوجي” مع تحرره تدريجيا من الالتزام الحزبي، ما اعتبره النّوّاب؛ فِكَاكًا من قيودٍ، رأى أنها تتعارض مع أسلوبه في النضال والعمل الثوري.


في فرنسا بدأ مُظفّر بإصدار دواوينه الشعرية التي بدأت بـ “المساورة أمام الباب الثاني” ثم “وتريات ليلية” ثم يغادر النوّاب باريس إلى طهران عقب اندلاع الثورة الإسلامية، ثم إلى بانكوك ثم الصين.. قبل أن يلبي عدة دعوات في بلدان أمريكا اللاتينية التي أقام فيها عددا من الأمسيات الشعرية، كان لها أكبر الأثر في الجاليات العربية هناك.

القدس عروس عروبتكم
فَأَيُّ قُرُونٍ أَنْتُم
أولادُ قُرَادِ الخَيْلِ كَفَاكُم صَخَبًا
خَلُّوهَا دَاميةً في الشمسِ بِلا قَابلةٍ
سَتَشُدُّ ضَفَائِرهَا وتَقِيء الحَمْلَ عَلَيْكُم
سَتَقِيءُ الحَمْلَ عَلَى عِزَّتِكُم
سَتَقِيءُ الحَمْلَ عَلَى أصواتِ إذاعَتِكُم
سَتَقِيءُ الحَمْلَ عَلَيكم بيتا بيتًا
وسَتَغْرزُ أصْبَعَهَا في أَعْينكُم.

هذا ليس سبا.. إنه توصيف لا يجرح “تابو” لغتكم؛ لكنه يُعَرّي براءة مكذوبة، ويسرف في التحريض على نبذ الهزائم، والاعتصام بالشعر الذي صار له وطنا لا يُغتال بالنفي والإبعاد.

لقد كان مُظَفَّر النواب شاعر الثورة والأمل وسيبقى المتفائل الأخير الذي لم يفقد جذوة الحلم، الحلم بفلسطين عربية من البحر إلى النهر، وبوطن عربي موحّدٍ.. ينهض من تلك الكبوة المستمرة منذ قرون، فما زال مُظَفَّر يحمل قنديله  صارخا فينا، لنقوم من رماد الوهم، ونبعث مجددا لنواجه “أساطيل الغزاة الجدد… فيالق الذئاب الأميركية ذات الأنياب النووية والقلوب المتحجرة”.

أنا أَنْتَمِي للجياعِ وَمَنْ سَيُقَاتِل
أنا أَنْتَمِي للمَسِيِحِ المُجَدِّفِ فَوقَ الصَّليبِ
وَقَدْ جَرَحَ الخَلُّ وَجْهَ الإلهِ عَلَى رِئَتَيْه
وَظَلَّ بِه أَملٌ وَيُقَاتِلُ
لمحمدٍ شَرْطَ الدُّخولِ إلى مَكّةَ بالسّلاحِ
لِعَلِيٍ بغيرِ شُروط
أنا أَنْتَمِي للفداءِ.. لرَأْسِ الحُسَينِ
وللقَرْمَطِية ِكُلّ انتِمَائي
وللماركسيينَِ شَرْطَ الثَّبَاتِ مع الفقراءِ
وَشَرْطَ القيامِ بها بالسّلاحِ كما هي أصلاً…

رحل مُظَفَّر النَّوَّاب أمس دون أن يكبدنا عناء مساومة القصيدة لمعرفة اسمه المستعار.. رحل حاملا عنا مشقّاتٍ عديدة؛ علنا نستفيق ذات يوم، لندرك أن القبض على جمر المبدأ مازال عملا صالحا وضروريا حتى في أزمنة الرداءة والخنوع؛ فلقد قدّم لنا مُظَفَّر النَّوَّاب النموذج والمثل حتى خلناه آتيا من زمن آخر لا يعرف غير المقاومة والرفض.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock