ثقافة

ناقد مغربي يروي ذكريات “ندمه الفكري”

يتجاوز الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو فكرة الاعترافات التقليدية خلال كتابه “في جو من الندم الفكري” الصادر مؤخرا عن منشورات المتوسط، خالقًا مناقشة ثرية حول أفكار شغلته، ومؤلفات أنجزها منذ زمن طويل؛ محافظًا على درجة الوضوح والمصارحة مع المتلقي.

في كتابه، يرصد كيليطو نوعين من الهموم التي يمكن أن تسيطر على أي كاتب بعد رحلة طويلة في البحث والتأليف: الأول، اكتشاف معلومات جديدة غابت عنه أثناء الإعداد لدراسة معينة. والثاني، الخجل من مواقف شعر حيالها بالذنب أو التقصير.

وكلا الموقفين ناتج عن تأمل الرحلة والوعي بتفاصيلها؛ ومن المدهش أن التزام الموقفين السابقين يلفت إليهما التصدير الذي أخذه من “جوتة” حيث اتساع مجال المعرفة وتعدد مساراتها. وتصدير غاستون باشلار الذي استقى منه عنوانه “في جو من الندم الفكري” حيث التحرر من أخطاء الماضي لبناء معرفة جديدة تكون مضادة لمعارف سابقة.

تأتي اعترافات كيليطو مختلفة عن أي اعترافات شبيهة، فهو لم يكشف عن أخطاء وقعت منه واستوجبت موقفا بطوليا ليعترف بها، بل لجأ إلى طريقة مثالية، وهي دراسة الأخطاء ببحث دوافعها وجوها الفكري الذي ولدت فيه، وجهوده في استكمال جوانبها للوصول إلى طبيعتها.

لذا، فالقارئ لن يجد مجموعة من الأخطاء المعرفية التي وقعت من المؤلف، والتي كان من السهل تداركها في الطبعات المختلفة لمؤلفاته بالتنبيه عليها في الهوامش واستعراض ما استقر عليه رأيه، لكنه سيجد جهدًا بحثيًا متواصلا للكشف عن كواليس الأخطاء، والصواب الذي استقر في ذهنه، وما مقدار ابتعاده أو قربه من الفكرة السابقة؟ وهل هو على النقيض تمامًا معها أم أن هناك درجات يتنقل بينها المؤلف؟

من هنا، تكون مقالات المؤلف استطرادات حول أخطاء الرحلة، ما يجعلها معرفة جديدة، وفضفضة حول أفكار قديمة، وفرصة للمراجعة، كونه يتعامل مع نصوصه –وفق تعبيره- كأنها “نصوص مريضة، تحتاج للمعالجة عند قراءتها، مع العلم أن العلاج لا نهاية له”.

عبد الفتاح كيليطو

ماذا لو كنت وجدتها؟!

يطرح المؤلف أفكاره القديمة، ويبعثها للمناقشة من جديد، نرى ذلك عندما يتأمل المقولة المنسوبة لمعاوية بن أبي سفيان التي تربط بين اللذة وبين الشعور بالغضب، ليجد المؤلف أن الرابط أيضا يوجد بين الوقوع في الأخطاء وبين الشعور بلذة خفية باطنية، مستنتجًا أن وقوع الأخطاء يضع الإنسان أمام قوته الغيبية المعروفة بقدره الخصوصي، والقدر برأيه هو ما يعاد ويتكرر كما الأخطاء، هذه اللذة الافتراضية المرتبطة بالخطأ كانت غائبة عن المؤلف عندما انشغل بالكتابة عن القدر في روايات فرانسوا مورياك.

مثلها، فكرة “مفتاح الأحلام”، الجملة التي تحيل على الكتب التي تسعى إلى كشف المعنى الخفي لما يُرى في المنام، وهو مالم ينتبه له أثناء تأليف رواية “انبئوني بالرؤيا”، وجعله يسأل نفسه: هل هناك مفتاح في الرواية؟ ثم يتطرق لفكرة المفتاح في القصة، ويكتشف أنه ذكر المفتاح بالفعل داخل الرواية، وأن العنوان نفسه في صيغته العربية، وفي صيغته المترجمة للإسبانية يبدو مفتاحًا جديدًا للنص.

تحمل اللغة في صرامتها وحفظها للفروق مفاجآت، بداية من الغرابة التي تثيرها عناوين الكتب العربية القديمة أثناء الترجمة، لأنها تحتاج إلى تبديل وتعديل، وخاصة العناوين المبنية على السجع، والتي تحيل إلى أنواع من معادن نفيسة وعطور مثل “قلائد العقيان” و”نفح الطيب”.

يواجه المؤلف اللغة في عنوان كتاب “بحِبر خفي” والتي يمكن أن تُقرأ “بحَبر”، ليتولد التفكير لديه في الحَبر ومعناها التبحر في العلم، ليربط بين الحبر والبحر، هذه اللعبة اللغوية كان غافلا عنها رغم وقوف اللغة واعية لهذه الفروق بالمرصاد لتكشف عن معانيها المستترة.

عبد الفتاح كيليطو بحِبر خفيعندما أدركت خجلت من خجلي

يلفت “كيليطو” إلى عدد من المواقف التي شعر فيها بالخجل، وأخرى كان كبرياؤه يرفض التساهل في الاعتراف بالخطأ أو الغفلة..

من هذه المواقف يسرد المؤلف محاولته للموازنة بين الشخصيات الأساسية في مقامات الحريري التي لا تنام وتظل طوال الليل ساهرة لاستكمال الحكاية، والشخصيات الثلاثة في ألف ليلة وليلة “دنيازاد- شهرزاد- شهريار”، فالثلاثة لا ينامون أيضا، ليستنتج أن الحكاية يشترك فيها ثلاثة أشخاص لا اثنان، كما أن أشخاص الحكاية لا ينامون.

سجَّل “كيليطو” الموازنة في كتاب “الغائب” ولفرط إعجابه أعاد كتابة الفكرة على لسان أحد شخوص رواية “انبئوني بالرؤيا” لتفاجئه أستاذة تُدَرِّس روايته أنها قلقة لأن الترجمة الفرنسية لـ”ألف ليلة وليلة” الخاصة بأنطوان غالان تشير إلى أن الشخوص ينامون جزءا من الليل. ما جعله يرتبك ويطلب منها أن ترسل له الفقرات، وعندما وصلته –وفق ما ذكر- شعر بالغضب الشديد والغيظ لأنه تسرع وكان مولعًا بالغرابة لدرجة أنه نسب للنص ما لم يقله.

يتأمل كيليطو المأزق الذي وقع فيه، يعرف أن الفكرة التي طرحها في “انبئوني بالرؤيا” لا تسبب له قلق؛ لأن “التلاعب في الإحالات وعدم الدقة في المراجع يجوز في الرواية وقد يستحب”، لكن عدم الدقة المتعلق بالدراسة الموجودة في كتاب “الغائب” ذنب لا يغتفر.

لذا، حاول أن يستنطق النص عدة دلالات كي يخرج من مأزقه، ويسأل نفسه: كيف لم ينتبه لترجمة “غالان” التي تقول فيها دنيا زاد: “يا أختي إن لم تكوني نائمة أرجو أن تواصل حكاية البارحة”؟ ويلوم نفسه لكونه لم يقرأها بالعناية اللازمة، أو لعادته في الذهاب لمقاطع معينة تفيد الدراسة دون قراءة العمل كاملا، أو ربما قرأ القصة الإطار ونسى ما جاء فيها، والنسيان في رأيه خطأ.

يتساءل “كيليطو”: ما الخطأ الرابض بداخلي أو الكلام الذي سمعته في رواية أو خرافة سابقة جعلتني أقول إن شخصيات “ألف ليلة وليلة” لا تنام؟ وهو ما سيتوصل إليه ويجده في رواية “مئة عام من العزلة”، حيث منع الوباء شخصيات القرية من النوم لمدة عشرين سنة، في حين استمر وباء شهريار ثلاث سنوات.

عبد الفتاح كيليطو الغائبلم يهدأ “كيليطو”، وحاول بقليل من المكر –حسب وصفه- أن يجد ثغرة في ترجمة “غالان”، معتمدا على الالتباس في جملة “إن لم تكوني نائمة” التي لا تعطى نتيجة جازمة بنوم شهرزاد، كما أن مراجعة الترجمات والنص العربي جعل من حسن حظه اكتشاف أرق شهريار.. لكن في النهاية فالكل ينام نومًا قليلا.

يطرح المؤلف خلال مقالاته عددا من الاعترافات الصغيرة، تمثلت في شعوره بالذنب عندما قدم إجابة على سؤال أحد الأساتذة: هل تعرف مارغريت دي نافارى؟ فرد قائلا: سمعت عنها بالصدفة. بينما كان الرد يستوجب: اذهب للجحيم.. لأن كل طالب مبتدئ في الأدب الفرنسي لا يجهل أخت الملك فرانسوا الأول. ومنها، تعمده طرح أسماء كتب عندما يسأل عن أول كتاب قرأه، فتكون الإجابة مرتبطة باللحظة الراهنة للسؤال، ثم يتطور الأمر ويخترع كتابًا هو الأول، ومن مبرراته أنه في النهاية يقدم اقتراحًا لقراءة هذا الكتاب. ومنها، محاولة حشر الحريري ومقاماته في جو عصرنا المواتي لفن الرواية، وعادة ما نتصرف هكذا عندما ننظر إلى أدبنا العربي من خلال آداب مهيمنة مثل الانجليزية والفرنسية.

يلج “كيليطو” قضية مطالعة الأدب الكلاسيكي من الصفر حيث نتصرف وكأننا قرأناه، معترفًا أنه بالفعل لم يقرأ الإلياذة ويتصرف من كونه يعرف محتواها، كما أن كثيرا من الناس لا يعرف دون كيخوتي إلا من خلال رسومات الفنان غوستاف دوري، وأنه لم يقرأ الأعمال الأربعة المؤسسة في الأدب العربي القديم، وهي الكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ وأدب الكتاب لابن قتيبة والأمالي لأبي علي القالي، باستثناء البيان والتبيين للجاحظ، حيث أشار ابن خلدون أنها “أصول والباقي فروع عليها”، ولا يمكن لأديب تجاهلها.

ورغم أهمية تراثنا القديم، فإنه من المدهش أن يتم النظر إليه بحسب تعريف إيطالوا كالفينو الذي أورده المؤلف وهو أنه “الأدب الذي يعلن قارئه أنه يعيد قراءته لكنه لا يعلن أنه قرأه”. إلى جانب ذلك من المؤسف أن يتم النظر إليه من خلال آداب مهيمنة، ومن المنطقي أن يتحاور الأدبان العربي والغربي.

يكتب “كيليطو” باللغتين العربية والفرنسية، لكنه يؤكد إخلاصه وحاجته للكتابة أكثر في الجانب العربي، وعادة ما يجد استهجان البعض للكتابة بالعربية، حيث لاحظ محاولات جره بعيدا عنها، بحجة أنك لن تكون مقروءا أو معروفًا، اكتب عن المتون التراثية العربية وعن قضايا العربية ولكن لا تستخدم لغتها.

عرض المؤلف لأمثلة، منها أستاذ من أصل عربي رفض قراءة كتاب “كيليطو” ناصحًا إياه أن يكتبه بالفرنسية، وطالبة لم يقابلها منذ عشرين سنة، كانت سعيدة لأنه يعتزم نشر أعماله الكاملة، وحين أبلغها أنها ستكون بالعربية امتعضت ولم تهتم بتفاصيل النشر، ما جعله يشعر بالندم لأنه استخدم العربية، وأستاذة جامعية أخبرته أنها لا تستخدم العربية إلا لكونها “لغة عمل” لكنها لن تكتب بها ولا يجب أن تصدر مؤلفاتنا بها.

ويتذكر “كيليطو” شعوره بالخجل عندما أبلغ الطالبة أن مؤلفاته ستصدر بالعربية، لكنه عاد ليقول: “خجلت من كتابتي باللغة العربية وحين استعدت إدراكي خجلت من خجلي”.

النظر من الشرفة إلى ذاتنا

ليس بعيدًا عن كتابة الاعترافات ودراسة الأخطاء، أن يُتاح للإنسان النظر من الشرفة ليجد نفسه مارًا أسفلها، من هنا يستطيع قراءة ذاته بشكل كاف، وهو ما اقترب منه لأكثر من مرة عندما تحدث عن لويس بورخيس وجاره، وأيضا عندما تحدث عن ابن القارح الذي يتحول من شخصية حقيقية إلى شخصية فنية في “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري.

فماذا لو تمكن الشخص من النظر إلى ذاته كأنها الآخر؟ وماذا لو أصبحت الذات شخصية فنية وتتحول هي لموضوع؟ على كل حال هذه جوانب قريبة من مراجعة النفس واستعادة تفاصيل الرحلة من جديد.

يعقد المؤلف موازنة خفية يمكن للقاري بشيء من التأمل أن يكتشفها، وهي تحول الشخصية الحقيقية للأديب إلى شخصية فنية والعكس، ففي “رسالة الغفران” يتحول ابن القارح لشخصية فنية لـ”يمشي على خطى الشعراء فيعيش ما وصفوه وما عانوه، وبعده بستة قرون يعاود نفس الفكرة دون كيخوتي الذي يغادر منزله ليعيش حياة التجوال التي قرأ عنها كما جاء وصفها في روايات الفروسية”.

المؤلف نفسه مارس ذلك نوعًا ما، عندما جعل شخصية في روايته “انبئوني بالرؤيا” تقوم بدراسة عن نوم شخصيات ألف ليلة وليلة، كان كتبها قبل ذلك في كتابه “الغائب” ثم عاد فيما بعد ليستكمل الحديث عن هذه الدراسة.

عميان بورخيس ووعي الملك شهريار

في مقال بعنوان “العميان” يكتشف “كيليطو” أن القصة التي كتبها لويس بورخيس في مجموعته “الألف” بعنوان “بحث ابن رشد” أن الشخصيات العربية التي وردت في القصة أصيبت بالعمى أو لديها مشاكل في النظر، بحيث يتحرك ابن رشد بطل القصة في جو من العميان أثناء بحثه عن معنى كلمتي “تراجيديا وكوميديا” تكررتا في كتاب “فن الشعر” لأرسطو.

ولأن ابن رشد يفشل في الوصول إلى معاني الكلمتين، رغم قرب ما يبحث عنه، فهو وإن كان يجهل المسرح؛ فمن نافذته يرى الفتيان يؤدون الصلاة في حركات تمثيلية، دون أن يفطن لها، فكان من الطبيعي أن تكون حالته أشبه بالعمى.

وعند استعراضه لعميان بورخيس، فهو يقول بشكل واضح أن كل باحث لا يتوصل إلى نتيجته المقصودة يوصف بالعمى، خاصة لو كان هذا الشيء المفقود يقطن بالقرب منه.

وبعيدا عن عميان بورخيس، فإن الناقد المغربي يتطلع لوعي الملك شهريار في الليالي العربية، فهو يختتم كتابه بمقال “الواحدة بعد الألف” ويقصد بها اللية الأولى بعد “ألف ليلة” استثمرتها شهرزاد في الحكايات، لكنها في اللية الأولى بعد الألف حكت حكاية غريبة، جعلت الأفكار تختلج في صدر الملك بشكل مبهم، ويطيل التفكير حتى استعاد بداية رحلته، فيكتشف أن شهرزاد تحكي حكايته هو بالفعل، تكررها، والملك يفطن لها جيدا، ويعلن أن هذه الحكاية تخصه هو؛ لتتوقف شهرزاد، فلولا وعيه وإدراكه لاستكملت الحكي واستعادت جميع القصص مجددا.

ففي هذا الختام غير المكشوف يخبرنا “كيليطو” أنه انتبه لرحلته وفطن لها، مخافة تكرار الأخطاء، لافتًا إلى أن الوعي لبدايات الرحلة ومنعطفاتها يقي الإنسان التكرار والوقوع في نفس الأخطاء السابقة.

محمود عبدالله تهامي

روائي ومحرر ثقافي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock