في حوار تليفزيوني أُجري معه في التسعينات٫ أشار الفنان الراحل نور الشريف إلى أن أمرا هاما يميز ويجمع بين كافة الابطال في افلام المخرج الراحل عاطف الطيب هو انهم جميعاً شاركوا بشكل او بآخر في حرب اكتوبر عام ١٩٧٣.
من يتأمل هذه المعلومة المهمة وبقليل من معرفة تاريخ عاطف الطيب يدرك أن هذا الأمر الجامع ليس غريباً خاصة إذا ما علمنا أن الطيب نفسه شارك في تلك المعركة كمقاتل ثم عاد تماماً كأبطال أفلامه ليجد واقعاً متغيراً متحولاً صَعُب عليه وعلى جيله أن يتواءم معه ومع قيمه المستجدة التي بدت متناقضة تماماً مع كل ما آمن به الطيب وقاتل لأجله.
تطور الوعي
إلا أن هناك – في رأيي الشخصي- أمرًا آخر لا يقل أهمية يجمع بين ابطال الطيب وهو ببساطة أنهم في أغلبهم٫ إن لم يكونوا جميعهم٫ يخوضون عبر زمن الفيلم رحلة إدراك لواقعهم.
وعلى سبيل المثال في فيلم “سواق الأوتوبيس” يتطور وعي حسن سلطان (نور الشريف) سائق الحافلة والمقاتل السابق في حروب مصر المعاصرة بشكل تدريجي ليدرك ان الخطر المحدق بورشة أبيه الحرفي “النجار” (عماد حمدي) ليس خطراً قاصرًا على شخص والده أو أسرته بل هو خطر يمتد الى الوطن برمته.
يعبر الطيب عن اكتمال ادراك البطل حسن سائق الأتوبيس في مشهد شديد الرمزية في نهاية الفيلم٫ فنفس السائق الذي تغاضى عن جريمة سرقة حدثت في حافلته في وقت سابق يأبى في النهاية أن يتغاضى عن جريمة مماثلة ويلاحق السارق ويفرغ فيه غضبه وسخطه من كل من تسببوا في مأساته.
وفي فيلم “البريء” فإن رحلة البطل الجندي البسيط احمد سبع الليل (أحمد زكي) تبدو أكثر تعقيداً٫ فهو يبدأ من غياب الإدراك تماماً فهو لا يفهم لماذا يستدعي للجندية ولا ما هو دوره هناك وهنا يأتي دور ابن قريته الجامعي المثقف حسين (ممدوح عبد العليم) الذي يوجه احمد الى مهمته تجاه الوطن.
الا ان هذه البذرة الادراكية – اذا صح التعبير- تتعرض للتشويه على يد من يُفهمون أحمد سبع الليل إن المعتقلين الذين يقوم بالحراسة عليهم حتى لا يهربوا هم “أعداء الوطن” وبطبيعة الحال يعتبر سبع الليل أن هذا يمنح مبرراً ليستخدم العنف ضدهم ويفرغ فيهم احباطه لبعده عن قريته وارضه وأمه الأرملة.
https://www.youtube.com/watch?v=fNxs7ctd1Rk
محاكمة المجتمع
إلا ان رحلة الإدراك تتحول إلى مسار آخر حين يصطدم سبع الليل بمعتقل لم يتوقعه على الإطلاق وهو ابن قريته الجامعي الذي يجده وجهاً لوجه امامه٫ هنا يدرك سبع الليل أن “أعداء الوطن” ليسوا هم من يقوم بالحراسة عليهم وتعذيبهم ويوصله هذا الإدراك الجديد الى الانفجار في مشهد النهاية.
أما مأساة بطل فيلم “الزمار” الذي صاغ حواره ببراعة شديدة الشاعر الراحل عبد الرحيم منصور٫ فهي أن وعي هذا البطل مكتمل ومتحقق منذ البداية وهو ما يجعله مصدر خطر على من ينهبون أقوات الناس في القرية التي يلجأ إليها٫ حيث يندس الزمار (نور الشريف) وسط العمال ويوجههم الى حقوقهم المهدرة٫ الأمر الذي يُغضب أعيان القرية ويلفت نظرهم الى مدى خطورته ويدبرون مكيدة لقتله٫ ويسقط الزمار مضرجا في دمه ومعه نايه الحزين٫ الا ان بذرة الوعي التي زرعها تجد امتداداً لها في زميله العامل البسيط عبد الله (صلاح السعدني) الذي ينجو في النهاية وتشكل نجاته بعضاً من الأمل.
حالة مشابهة نجدها عند حسن عز الرجال (نور الشريف) في فيلم “كتيبة الاعدام”٫ ذلك المصرفي الذي حُبس ظلماً بابشع تهمه وهي خيانه الوطن٫ يخرج حسن من محبسه وهو لا يرجو سوى ان يلتقي ولده الذي نشأ بعيداً عنه٫ الا أن رحلته في البحث عن ولده هي ايضاً رحلة إدراك٫ يصل معها إلى شخص الخائن الحقيقي ويدرك ان ثأره ليس شخصياً وانما ثأر وطن بأكمله ممن فرط في دماء شهدائه وتضحياتهم.
الإدراك ذاته هو ما يحول بطل فيلم “ضد الحكومة” المحامي الفاسد مصطفى (احمد زكي) الى شخص يدافع عما يصفه ب”قضية العمر”٫ يدرك المحامي الذي جمع اموالا من قضايا التعويضات التي لا يعنيه ضحاياها سوى كأرقام تترجم فيما بعد الى مبالغ ماليه ان ابنه كان ضحية حادث أليم سببه الفساد والاهمال٫ فيقف في ساحة المحكمة ليحاكم لا المهملين فحسب بل عصراً باكمله صارت فيه اللامبالاة هي القانون والعُرف وصرنا “كلنا فاسدون” على حد تعبيره.
https://www.youtube.com/watch?v=7hhTJFGhyTE
في أغلب اعمال عاطف الطيب٫ بدا وكأن أبطاله امتداد بشكل او بآخرلذاته وتجربته وكانوا تعبيراً عما يرغب ان يحدث لجمهوره٫ أن ينتقل من الغفلة الى الادراك ومن التغييب الى التغيير.