في كتابه “قدر المسيحيين العرب وخيارهم” يؤكد البير منصور وزير الدفاع والإعلام اللبناني الأسبق وأحد قيادات الحركة الوطنية اللبنانية أن الدولة الصهيونية منذ نشأتها سعت الى “نسف قاعدة العيش المشترك” في لبنان و”شجعت القوى المذهبية” على اختلافها و”حثت على الاقتتال” على أساس الانتماء الديني والطائفي.
وظيفة صهيونية
ويرى منصور أن الدولة الصهيونية استخدمت في سعيها هذا كافة الأدوات الممكنة من العمل المخابراتي على مدار سنوات طوال إلى الغزو المباشر كما في عام ١٩٧٨ الى الاحتلال العسكري عام ١٩٨٢ إلى استخدام وكلاء في لبنان ينفذون هذا المشروع نيابة عنها.
ويخلص منصور الذي كان عضوا في التحالف اليساري (الحركة الوطنية) الذي قاتل الصهاينة الى جانب المقاومة الفلسطينية حتى عام ١٩٨٢ ثم منفرداً بداية من ذلك العام٫ إلى أن “كل عقيدة تمييزية إقصائية٫ تميز بين المواطنين على أساس ديني هي في واقع بلادنا عقيدة ذات وظيفة صهيونية” وذلك أياً كان سندها العقائدي.
ما ذكره منصور بالنسبة للبنان٫ لم يعد ظاهرة قاصرة على ذلك القطر العربي الشقيق ، فمنذ احتلال العراق على يد الولايات المتحدة في عام ٢٠٠٣ سعت أطراف عدة٫ اقليمية ودولية على حد سواء٫ الى اثارة النعرات المذهبية بين أبناء الوطن الواحد٫ حيث أصبح الاختلاف العقائدي في حد ذاته مبرراً للقتل على الهوية.
هذه الأطراف الطائفية والمذهبية ينطبق عليها تماماً ما قاله منصور من انها “تمارس وظيفة صهيونية” بامتياز٫ فهي تصرف الأنظار عن العداوة الحقيقية المتأصلة منذ عام ١٩٤٨ والتي تستند إلى اساس واقعي لا عقائدي متمثل في اغتصاب أرض وتشريد شعب إلى عداوات وهمية مختلقة.
ان كل طلقة يطلقها أي طرف في سوريا او العراق او اليمن او غيرها من أقطار العرب ضد طرف آخر على أساس ديني أو فصائلي او حزبي أو غير ذلك هي بالضرورة طلقة صهيونية٫ تؤدي للدوله الصهيونية دورها وغايتها بالوكالة.
وحدة “الفعل المقاوم”
وفي المقابل فإن أي طلقة تطلقها المقاومة في أي قطر عربي ضد الاحتلال هي بالضرورة فعل توحيدي٫ يتجاوز الفوارق الطائفية والمذهبية والحزبية ويجمع الكل حول بندقية موجهة إلى الوجهة الصحيحة الصائبة.
كانت الطلقات التي أطلقتها جبهة المقاومة الوطنية بداية من سبتمبر عام ١٩٨٢ ضد قوات الغزو الصهيوني في قلب بيروت كفيلة بأن تقدم مشروعا بديلاً ومغايراً لواقع الحرب الأهلية الذي ذبح لبنان من الوريد إلى الوريد بداية من عام ١٩٧٥ .. مشروع قدم نموذجاً انصهرت فيها الطوائف المختلفة على قاعدة مقاومة العدو.
وحين حلت المقاومة الاسلامية بواجهتها الشيعية محل الجبهة الوطنية بداية من تسعينات القرن العشرين وانفردت بالعمل المقاوم في جنوب لبنان لم تقدم مشروعاً طائفيا بل حازت بفضل تمكنها من دحر العدو عام ٢٠٠٠ ثم إلحاق الهزيمة به عام ٢٠٠٦ على شعبية واسعة وصارت محل إجماع عربي تجاوز اختلاف الطوائف.
أما المقاومة الفلسطينية الباسلة فاستطاعت أن تحقق إنجازا مشابها٫ خاصة في معركة “سيف القدس” حيث جسدت فكرة الوحدة حول مبدأ المقاومة من خلال ما يعرف باسم “غرفة العمليات المشتركة” في قطاع غزة التي جمعت كافة الفصائل ومكنت المقاومة من توظيف كافة إمكانات الفصائل على اختلافها.
استطاعت المقاومة أن ترأب الصدع الذي ظل حاضراً منذ أحداث غزة الدامية عام ٢٠٠٨ والصراع بين الفصائل٫ فوحدت الضفة الغربية وقطاع غزة على أساس تلبية نداء القدس التي كانت تتعرض لعدوان الاحتلال ومستعمريه٫ بل وانضم الداخل المحتل عام ١٩٤٨ الى ركب المقاومة بشكل فاجأ قيادة الدولة الصهيونية التي سعت لسنوات إلى فصل الكيانات الثلاث.
على هذا الأساس٫ يمكن فهم لماذا خرجت الضفة عن بكرة أبيها تحتفل بانتصار غزة ولماذا صدحت مآذن القدس بالتهليل والتكبير للنصر ذاته.
إن الفعل المقاوم الذي شهدناه طيلة أيام عشر من معركة “سيف القدس” وقبلها على مدار ٣٣ يوماً من حرب لبنان عام ٢٠٠٦ يعد بمثابة بوتقة انصهر فيها كل المؤمنين والراغبين بالعيش في أمة حرة كريمة تملك سيادتها على أرضها وقرارها المستقل٫ أما من يفرق بين أبناء الأمة الواحدة على أي أساس كان٫ فإنه يكرس -بالضرورة- وضع التبعية والارتهان للخارج و القبول بالمذلة.