زاد نشاط اليسار الأميركي في السياسة الخارجية بشكل لافت في السنوات القليلة الماضية. وفي خضم موجة العنف الأخيرة التي انتهجتها القوات الإسرائيلية ضد المحتجين الفلسطينيين، تبلورت بقوة شهية جديدة لهؤلاء القابعين على يسار السياسة الأميركية للانخراط في الشؤون الدولية.
لا شك أن صعود اليسار الأميركي ارتبط بقوة، على مدى العقد الأخير، بجهود مكافحة العنصرية الممنهجة، وعدم العدالة البيئية، وفوق كل ذلك التفاوت الاجتماعي الاقتصادي. أما الاهتمام بالسياسة الخارجية فلم يشهد صعودا في دوائر اليسار الأميركي إلا مؤخرا، ما قد يثير قلق حلفاء الولايات المتحدة.
ومن المحتمل أن يضع هذا الأممية التقدمية اليسارية في مواجهة الأممية الليبرالية، التي تمثل السياسة الخارجية الافتراضية للحزب الديمقراطي المؤيد على نحو واسع للتدخل العسكري والاستعراض الأميركي للقوة.
ويتشكك كثيرون في الولايات المتحدة فيما إذا كان التدخل اليساري المحدود في الشؤون الدولية سيؤثر على السياسة الخارجية الأميركية، أو ما إذا كان سيشكل حتى حزمة متماسكة من مبادئ السياسة الخارجية. وغالبا ما يتم تجاهل هذا التدخل باعتباره إما مجموعة من ردود الأفعال المناهضة لترمب، أو شكل مستتر من أشكال “الانعزالية الترمبية”. لكن، يبقى هذا ـ على أقل تقدير ـ تبسيطا مبالغا فيه.
وبينما كانت هناك بعض التوجهات الفكرية في الولايات المتحدة التي تتبنى وجهة نظر يسارية في السياسة الخارجية، والتي توصف بأنها سلمية، ومناهضة للرأسمالية، ومتضامنة مع العالم الثالث، إلا أن هذه التوجهات ظلت حبيسة الجامعات في حقبة الحرب الباردة، وما بعد الحرب الباردة.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بدأت أصوات يسارية بقيادة بيرني ساندرز وإليزابيث وارين مساءلة، وربما التشكيك في، إجماع ما بعد الحرب الباردة على التجارة الحرة وتفوق الولايات المتحدة، ولكنها مع ذلك أيدت المشاركة الدبلوماسية والاقتصادية الأميركية مع العالم والدفاع عن القيم الأميركية.
لا يمكن وصف ذلك باليسارية السلمية، وإنما هو، على أقصى تقدير ـ تمثيل لخط تفكير يجري في نهر السياسة الخارجية الأميركية ويدافع عن مشاركة الولايات المتحدة مع العالم، لكنه يشكك في حكمة المغامرة العسكرية.
ويعتقد أنصار هذه المقاربة “الجيفرسونية” في الغالب أن أميركا يجب أن تقدم نموذجا للعالم من خلال قيمها ونظامها الديمقراطي بدلا من أن نحصر تطلعاتها في إسقاط الحكومات، والسعي وراء الهيمنة، وتقوية العالم عبر نظام اقتصادي نيوليبرالي.
في بعض الأوقات، تبدو السياسة الخارجية اليسارية أكثر دراية وقربا من المفكرين الواقعيين من أمثال ستيفن والت وأندرو باسيفيتش، الذين ينافحون عن سياسة خارجية أقل تدخلا، منها بمفكرين يساريين من أمثال نعوم تشومسكي أو ماركسيين مثل إيمانويل والرشتاين.
والحقيقة أن اليساريين الأميركيين يحاولون ’مغازلة‘ السياسة الخارجية منذ حين. فعندما سعى بيرني ساندرز إلى الرئاسة في عام 2012، كان واضحا أنه ـ برغم طول الفترة التي قضاها بين جنبات الكونغرس كعضو في مجلس الشيوخ ـ ليس لديه اهتمام كبير بالشؤون الخارجية، وأنه لم يتمكن حتى من صياغة رؤية متماسكة للسياسة الخارجية.
وعزم ساندرز على إيجاد حل لهذه المعضلة من خلال تبني مقاربة أكثر نشاطا، والاستعانة بفريق يعمق مشاركته في التعقيدات الخارجية الأميركية. وفي أثناء ولاية إدارة ترمب أصبح اليسار أكثر تعبيرا عن قضايا التجارة والبيئة وأكثر إدراكا لأهمية الدبلوماسية، فيما فصل نفسه عن بقية الحزب الديمقراطي عن طريق رفض نزوعه إلى انتقاد ترمب عندما أبدى (على المستوى الخطابي، على أقل تقدير) معارضته للصراعات خارج الحدود الأميركية والالتزامات العسكرية واسعة النطاق.
لكن التوغل الأهم لليسار في الشؤون الخارجية جاء بدعمه لجهود الكونغرس من أجل وقف الدعم الأميركي للحرب السعودية في اليمن. لقد حول الدعم الأميركي للضربات الجوية والحصار السعودي لليمن هذا البلد إلى أسوأ كارثة إنسانية في العالم وفقا لتقارير الأمم المتحدة، بينما فشل مؤيدو الرياض في واشنطن في تقديم تفسير منطقي بشأن مصلحة الولايات المتحدة في هذا الصراع.
وبالنسبة إلى اليسار، مثل هذا الأمر أسوأ توجهات التدخل الأميركي الذي غالبا ما كان يتم تبريره على أسس تتعلق بحقوق الإنسان والاستقرار وغيرها.
ولكن، حتى الجهود من أجل وقف الدعم الأميركي للحرب السعودية على اليمن كان يُنظر إليها، على نطاق واسع، على أنها تعود في المقام الأول إلى نشاط الديمقراطيين الليبراليين في الكونغرس، وليس إلى اليسار. كما كان اليسار أيضا يغرد وحيدا في انتقاده للعقوبات الأميركية لأسباب إنسانية، وللانقلاب الذي اطاح بالرئيس البوليفي إيفو موراليس.
ولكن، يبدو أن القمع الإسرائيلي في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة مثل نقطة تحول بامتياز نحو اندماج أكثر منهجية في السياسة الخارجية في أجندة اليسار. وكما ألمح كثيرون، فإن مشهد مهاجمة القوات الإسرائيلية لللمحتجين الفلسطينيين، بما في ذلك داخل الحرم القدسي، والحملة الإسرائيلية لإخلاء المنطقة من سكانها الفلسطينيين لصالح المستوطنين اليهود جعلت هناك مقارنات كثيرة بين ما يقترفه الإسرائيليون بحق الفلسطينيين من جانب وما اقترفته أميركا بحق محتجي حركة “حياة السود مهمة” في هذا الصيف من جانب آخر.
وبدأ اليساريون الذين يستمتعون بالتشكيك في التقاليد السياسية الراسخة وإثارة قضايا العرق وعدم المساواة الاقتصادية في عمل شيء ما في هذا السياق.
وينتقد حاليا النشطاء، والمسؤولون المنتخبون المرتبطون باليسار، الصهيونية، ويشيرون إلى إسرائيل باعتبارها “دولة فصل عنصري”. في هذا السياق غردت عضوة الكونغرس ألكساندرا أوكاسيو كورتيز أن “دول الأبرتايد (الفصل العنصري) ليست دولا ديمقراطية”، في تحد سافر للسردية التي تقدم إسرائيل باعتبارها الحليف الديمقراطي الوحيد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وقبل هذا بوقت ليس بالطويل، كان هذا التوصيف للدولة العبرية مرفوضا تماما، حتى من قبل الديمقراطيين في الكونغرس، باعتباره “معاداة للسامية”.
وأكد البعض أن النظر إلى العنف الإسرائيلي من منظور العنف العرقي والشرطي في الولايات المتحدة يمثل خلطا غير قانوني بين الشؤون الخارجية والمحلية. ولكن تبقى الفكرة الواقعية في التعامل مع المساحات السياسية الدولية والمحلية باعتبارها فضاءات منعزلة وغير قابلة للاختلاط بطبيعتها ليس محل إيمان من قبل الجميع. فالأمميون الليبراليون والمحافظون الجدد يؤيدون مبدأ نشر الولايات المتحدة لقيمها بالقوة. كما أن الدعم الأميركي لإسرائيل يرجع في جزء كبير منه إلى الأيديولوجية الدينية للصهيونية المسيحية.
(يُتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا