في كتابه الجديد الذي صدر الشهر الجاري عن دار “كندل هانت” الأمريكية٫ يواصل الكاتب الصحفي الأمريكي ميلتون إليمادي ما بدأه في كتابه الأول “قلوب مظلمة” والذي خصصه لمحاولة فهم كيف شوَّه الكتاب البيض٫ الأوروبيون والامريكيون على حد سواء٫ صورة القارة الافريقية في عيون وأذهان شعوبهم.
وان كان إليمادي قد انطلق في كتابه الأول الصادر عام ٢٠٠٣ في رحلة لاستكشاف جذور التشويه الأبيض – اذا صح التعبير- للقارة السمراء وشعوبها وثقافتها٫ فإنه في كتابه الجديد يذهب خطوة أبعد كما يتضح من العنوان الفرعي للكتاب “كيف تم تشويه افريقيا في الخطاب الإعلامي”.
والإعلام عند المؤلف ليس المرئي فحسب٫ بل انه يستخدم مصطلح الإعلام بشكل عام في كتابه الجديد ليشير إلى كافة وسائل الاتصال المختلفة التي تشكل رأياً عاماً في مجتمع ما.
ويرى إليمادي أنه٫ منذ فجر القرن السابع عشر الميلادي٫ عكفت هذه الوسائل على اختلافها في اوروبا من صحف ومجلات وأعمال أدبيه وغير ذلك على رسم صورة ذهنية محددة للقارة الأفريقية.
ولم يكن هذا التوجه وليد الصدفة بل تزامن مع التوسع الاستعماري الأوروبي الذي بدأ يُنشئ مستعمراته الأولى على الشواطئ الغربية للقارة الإفريقية.
أداة استعمارية
ويفرد الكاتب مساحة لكتابات الرحالة الأوروبيين او يومياتهم التي كانوا ينشرونها عن رحلاتهم في القارة بمجرد عودتهم إلى أوروبا.
ويري المؤلف ان الرحالة الاوروبيين كانوا أداة استعمارية حيث لم يكن الهدف من رحلاتهم استكشافياً أو علمياً كما زعموا وإنما كان لخدمة التوسع الأوروبي في أفريقيا٫ ويشير المؤلف إلى أن المتتبع لرحلاتهم يدرك أنها مهدت الطريق بشكل او باخر للجيوش الغازية، ناهيك عن أن هؤلاء المستكشفين كانوا يعيدون تسمية الأماكن التي وصلوا إليها كالغابات ومنابع الأنهار وغيرها بأسماء ملوكهم وملكاتهم في إلغاء متعمد لهوية هذه المناطق وتاريخها ومحاولة صبغها بصبغة أوروبية بحتة.
ولذا يخلص الكاتب إلى أن هؤلاء الرحالة والمسكتشفين لاسيما الرواد الذين افتتحوا عهد الاستكشاف الأوروبي كان لا يقلون في “استعماريتهم” عن الجنرالات الذين قادوا عمليات الغزو الاستعماري.
لكن الأدهى من ذلك هو أن يومياتهم التي أقبل عليها جمهور القراء في أوروبا كانت ترسم صورة مشوهة للغاية عن القارة الأفريقية وسكانها وتختزل عاداتهم وتقاليدهم في صور نمطية وكان هذا بطبيعة الحال لخدمة هدف سياسي هو تقديم نوع ما من التبرير الأخلاقي لغزو هذه البلاد واستعمارها حيث ان الغزو هنا- ووفقاً لهذا المنطق – يصبح امراً ضرورياً لتمدين هذه الشعوب.
ويشير المؤلف إلى أن هذا “التمدين” المزعوم كان يتجاهل الحضارات القائمة بالفعل على أرض إفريقيا والتي كان يصل عمر بعضها إلى آلاف السنين.
وكأن هذا التمدين يتطلب بالضرورة استخدام درجة بالغة من العنف من جانب هؤلاء القادمين عبر البحار ل”تعليم” الأفارقة التمدن والتحضر٫ وفي بعض الأحيان كان العنف يصل الى حد الإبادة الجماعية كما فعل الملك ليوبولد الثاني٫ ملك بلجيكا في الكونغو أو كما فعل قيصر ألمانيا في ناميبيا.
والحقيقة – وفقاً للمؤلف – هي أن الاوروبيين لم يعبأوا كثيراً بالأفارقة الذين ادعوا انهم قدموا ل”تمدينهم” وإنما كانوا معنيين بما تحتويه أراضيهم من ثروات طبيعية تحتاجها أوروبا لدفع ثورتها الصناعية قُدماً مثل المطاط في الكونغو والذهب والماس في جنوب افريقيا وغير ذلك.
“الآخر” الأفريقي
ثم ينتقل الكتاب إلى تناول الإعلام الأمريكي لا سيما الصحافة المكتوبة للشأن الأفريقي٫ حيث يرى الكاتب أنها -أي الصحافة الأمريكية- ورثت بشكل أو بآخر هذه النظرة العنصرية للأفارقة من نظيرتها الأوروبية.
ويشير الى مقالات بعينها في صحف أمريكية بارزة مثل النيويورك تايمز ومجلات مثل “ذا ناشيونال جيوغرافيك” و”ذا نيويوركر” واللافت أن هذه النظرة التي تبنتها الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر الميلادي امتدت إلى خمسينات القرن العشرين٫ حيث تشي التقارير المرسلة من صحافيين أمريكيين متمركزين في القارة الافريقية الى مقر صحفهم الرئيسي في الولايات المتحدة بنظرة استعلائية تجاه الأفارقة٫ فحركات التحرر الوطني التي شهدتها القارة الافريقية في تلك الفترة كان يشار إليها باعتبارها “أعمال عنف” في حين لا يستخدم نفس التعبير لوصف القمع الاستعماري الوحشي للثوار والمدنيين على حد سواء.
بل ذهبت صحيفه “نيويورك تايمز” إلى ما هو أبعد وفقاً للكاتب حيث اختلق كتابها اخباراً لم تحدث على الإطلاق في القارة الافريقية لتبرير وصف هذه الأخيرة وشعوبها ب”الرجعية”.
ويرى الكاتب ان النتاج الطبيعي لموروث اعلامي كهذا هو ان الافارقة والمجتمعات السمراء في الولايات المتحدة وأوروبا أصبح ينظر إليهم من قبل مواطنيهم البيض باعتبارهم “آخراً” مختلفاً٫ مغايراً٫ ذا ثقافة أدنى وهي الصورة التي لاتزال مستمرة و عالقة في الأذهان حتى يومنا هذا.