فن

صلاح أبو سيف.. صوت المقهورين في السينما المصرية

فى دراستها حول السينما المصرية قالت الناقدة الألمانية “اريكا ريشتر” : “إن صلاح أبو سيف هو استاذ الأفلام الواقعية في مصر. وتعتبر أفلامه بمثابة العمود الفقري لهذا الاتجاه، تلك الأفلام التي تستطيع من خلالها دراسة أهم المواضيع والأساليب والحلول الفنية التي يلجأ إليها الفيلم الواقعي في مصر للقضايا التي يواجهها ويتصدى لها. ولقد استطاع أبو سيف أن يواجه الأفلام اللاواقعية التي تنتجها “هوليود الشرق” بأفلام ذات مضمون شعبي وإنساني -اشتراكي، وأصبح بذلك سنداً ومحرضاً وممهداً للسينما المصرية التقدمية، مساهماً بذلك مع كل الجهود الجدية في هذا المجال. ويُعَدُّ أبو سيف هو  الممثل الثاني للسينما المصرية بعد “كمال سليم”. كذلك استطاع أن يدخل الفيلم المصري في نطاق تاريخ الفن السينمائي العالمي. ولقد عرضت أفلامه في مهرجانات كان، البندقية، موسكو، كارلوفي – فاري وبرلين “

ربما تختصر شهادة الناقدة الألمانية عن سينما صلاح أبو سيف والتي نقلها عنها الناقد الكبير سمير فريد فى كتابه ” الواقعية الجديدة فى السينما المصرية “الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب عام 1992 ربما تختصر  الكثير وتفتح أبوابا لتناول مدى تأثير ما قدمه “أبو سيف “للسينما المصرية خلال مشوار امتد لأكثر من نصف قرن قدم خلاله ما يزيد عن 50 عملا فنيا وكان له نصيب الأسد ضمن قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية حيث تضمنت القائمة 11 عملا من أعمال صلاح أبو سيف.

الواقعية الجديدة في السينما المصرية رسالة اجتماعية

كان اختيار “أبو سيف ” للسينما الواقعية ذات الطابع التقدمي متسقا مع قناعات المخرج الراحل فقد اعتبر الفن رسالة اجتماعية في المقام الأول وظل مؤمنا بأهمية أن يكون للسينما دور فى التعبير عن المهمشين وطرح قضاياهم وهمومهم وطرح الأسئلة الكبرى عن هذا العالم الذي يعانى الطبقية ويمارس القهر ضد الطبقات الفقيرة والمهمشة

في 10 مايو عام 1915 بحي بولاق بالقاهرة ولد  ” صلاح أبو سيف مسعود فهمى ”   بعيدا عن  والده الذى كان “عمدة ”  لإحدى قرى محافظة بني سويف جنوب مصر وكان الأب متعدد الزيجات،  وقد رفضت والدة “صلاح ” أن تترك القاهرة لتعيش مع الأب في بني سويف وهذا ما تسبب فى انفصالهما مبكرا ، وروى المخرج “محمد أبوسيف ” نجل المخرج الكبير أن صلاح لم ير والده سوى مرة واحدة داخل قاعة المحكمة أثناء نظر دعوى ضم الطفل وكان عمره 5 سنوات وعاش صلاح  مع والدتهحتى رحلت ، ويرجع البعض تلك الصورة السلبية “للعمدة ” فى كل أعمال أبو سيف إلى تلك التجربة القاسية التي مر بها خلال طفولته وكذلك جاء تقديس “صلاح ” للمرأة فى أعماله خاصة الأم التي تتفانى من أجل أبنائها .

 غزل المحلة والانحياز لليسار

 بعد انتهائه  من الدراسة الابتدائية التحق أبو سيف بمدرسة التجارة المتوسطة

ثم كانت الفترة من 1933 حتى عام 1936 هي الأهم في مرحلة النشأة والتكوين حين التحق خلالها بالعمل فى شركة المحلة للغزل والنسيج ليتعرف صلاح  عن قرب على واقع العامل المصري فى مرحلة المد الليبرالي ويطل برأسه على الحركة العمالية المصرية فى واحدة من أكبر قلاعها الصناعية حيث كانت المحلة تموج  برموز العمل النقابي ومسارات الحركات والتنظيمات الاشتراكية ويقترب “صلاح ” من اختيار مساره اليساري الذى ظل منحازا له حتى نهاية حياته فقد شارك “أبو سيف ” فى تأسيس “حزب التجمع الوطني التقدمي ” الذى أسسه خالد محي الدين عام 1976 وكان مسؤولا عن مكتب الأدباء والفنانين الذى شكله الحزب كما كان مؤسسا للجنة القومية للثقافة الوطنية التي ضمت عددا كبيرا من المثقفين والفنانين التقدميين فى مصر .

فى المحلة الكبرى اهتم صلاح بالصحافة الفنية وازداد ولعه بالسينما فانشغل بدراسة فنونها وقرأ فى الموسيقى وعلم النفس والمنطق إضافة إلى التاريخ والاقتصاد شأن كل أبناء الحركة اليسارية.

صلاح أبو سيف وشادية من افتتاح فيلم اللص والكلاب
صلاح أبو سيف وشادية من افتتاح فيلم اللص والكلاب

وخلال تلك السنوات الثلاث التي قضاها فى المحلة قام أبو سيف  بإخراج بعض المسرحيات لفريق مكون من هواة العاملين بالشركة، وكان له فرصة الالتقاء بالمخرج “نيازي مصطفى” أثناء وجوده بالمحلة ليصنع  فيلماً تسجيلياً عن شركة غزل المحلة ، ودهش نيازي مصطفى من ثقافة أبو سيف ودرايته بأصول الفن السينمائي ووعده بأن يعمل على نقله إلى ستوديو مصر

وهو ما تحقق بالفعل حيث بدأ صلاح أبو سيف العمل بالمونتاج في ستوديو مصر، وأصبح رئيساً لقسم المونتاج بالأستوديو لمدة عشرة سنوات حيث تتلمذ على يده الكثيرون في فن  المونتاج. كذلك التقى في استوديو مصر بزوجته فيما بعد “رفيقة أبو جبل” وكذلك تعرف على المخرج الكبير “كمال سليم” صاحب فيلم ” العزيمة “وهو الفيلم الواقعي الأول في تاريخ السينما المصرية.

 الغرب والصدمة الحضارية

 فى عام 1939 تسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية فى عدم استمرار “أبو سيف” فى رحلته بفرنسا لدراسة السينما وقضى عدة أشهر في باريس ليعود منها وقد تعرض الشاب الصغير لصدمة حضارية كادت أن تفقده توازنه كما عاد إلى مصر حاملا تجربة ذاتية تحولت فيما بعد إلى قصة فيلم ” شباب إمراة ” واضطر للعودة فى نفس العام على باخرة كان على متنها كل من “طه حسين “ومحمد التابعى ” وغيرهما من رموز الحركة الثقافية والصحفية.

سينما الالتزام الاجتماعي

في عام 1946 كان صلاح أبو سيف على موعد مع أول تجاربه بتجربته الأولى في الإخراج السينمائي الروائي  من خلال فيلم  “دايما في قلبي ” من بطولة عقيلة راتب وعماد حمدي ودولت أبيض

وفي العام 1950 كانت إيطاليا محطة مهمة فى مشوار “أبو سيف ” حيث تعرف أكثر عن مدرسة الواقعية الجديدة فى السينما العالمية وكانت رحلته إلى روما للانتهاء من فيلم “الصقر ” بطولة عماد حمدي وسامية جمال و فريد شوقي

وفى عام 1951 قدم فيلم “لك يوم يا ظالم ” ليكون بداية مرحلة جديدة فى سينما أبو سيف تلاها عدد من أروع أعماله مثل “الأسطى حسن ” و”الوحش ” ليصل إلى مرحلة من النضج الفني والتقني عام 1956 مع رائعته “شباب إمراة ” الذي احتل المركز السادس فى قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية

وفى عام 1960 يخوض أبو سيف  تجربة بها قدر عال من المغامرة والتجريب حين قدم فيلم “بين السما والأرض ” عن قصة صديقه “نجيب محفوظ ” ورغم تعرض العمل لخسائر  مادية  كبيرة وعدم تحقيقه إيرادات تليق بصناع الفيلم إلا أنه بقى من كلاسيكيات السينما المصرية.

ويستمر التعاون بينه وبين محفوظ فى “بداية ونهاية ” عام 1960 ويواصل “أبو سيف ” خلال هذا العمل واقعيته المبهرة وقدرته على الغوص فى أعماق المجتمع وفى عام 1966 يقدم رائعة ” القاهرة 30 ” وهو علامة خالدة  فى  تاريخ السينما المصرية

ثم يقدم فى 1967 فيلم “الزوجة الثانية ” ونتيجة الخسائر المالية التي تعرض لها هذا الفيلم تشهد سينما “صلاح ” اتجاها مغايرا نحو أفلام الإغراء  والأفلام ذات الطابع الرومانسي  ليقدم بعده عددا من الأعمال منها “3 نساء ” و”شئ من العذاب ” و”حمام الملاطيلى ” و”سنة أولى حب “

وفى عام 1977يقدم  المخرج الكبير واحدا من أهم أعماله وهو فيلم “السقا مات ” عن قصة “يوسف السباعى ” ومن إنتاج يوسف شاهين وكان إنتاجا  “مصرىا – جزائريا ”  مشتركا.

كما قدم  أبو سيف فيلم “القادسية ” من إنتاج مصرى – عراقى مشترك عام 1982 ولم يتوقف “أبوسيف ” عن التنوع فى معالجة أفكاره حيث قدم فنتازيا واقعية من خلال “فيلم البداية ” عام 1986 و” السيد كاف ” عام 1994

وكان قد قدم رائعة “المواطن مصري ” عام 1991 وهو بمثابة وثيقة إدانة قوية لمرحلة حكم الرئيس أنور السادات وما شهدته من متغيرات قاسية على الفقراء الذين انحاز لهم “صلاح ” وظل ممسكا على جمر هذا الانحياز المطلق لحقهم فى حياة تليق بإنسانيتهم دونما استغلال أو احتكار أو تهميش

فى 22 يونيو عام 1996 رحل “صلاح أبو سيف ” بعد أن فتح الآفاق أمام سينما جادة وملتزمة وبعد أن علمنا أن للفن دورا حيويا  فى النضال من أجل العدل والخير والحرية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock