مختارات

الحضارة الاسلامية والمركزية الاوروبية

بقلم: حسن حافظ، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك

‎انتهيت من قراءة الجزء الأول من العمل الفذ ‎للمستشرق الأميركي مارشال هودجسون “مغامرة الإسلام.. الضمير والتاريخ في حضارة عالمية”. هل أخبرتكم يوما أنني أكره مراجعة الكتب؛ تلخيص أفكارها؟ في الحقيقة أظن أن تفاعل كل شخص مع كتاب ما هو تجربة شخصية جدا، قائمة على حوار ذاتي بين عقل له خلفياته ومثله وأسئلته وبين منتج المؤلف الذي يفصح عبر صفحات الكتاب عن خلاصة رحلته، فما يقدمه الكتاب عادة هو بعض ما يدور في عقل صاحبه، لذا معرفة منابع فكر المؤلف والاطلاع على تكوينه العلمي وتجاربه الحياتية قد تكون مفيدة في استكشاف بعض طبقات الكتاب حتى ولو لم يتم التعبير عنها مباشرة. هذا الكلام ليس تهربا من الكشف عن بعض ما استفدته وعلقته من كتاب مهم مثل “مغامرة الإسلام”، بل هو بيان بأن ما استقبله عقلي وفهمي ليس بالضرورة أن يكون القراءة الوحيدة للنص، بل هي قراءة ضمن قراءات تتنوع وتتعدد بحسب عدد قراء النص.

مغامرة الإسلام.. الضمير والتاريخ في حضارة عالمية

‎بداية لن أتحدث هنا عن مقدمة هودجسون البديعة بما تحمله من دفق فكري هائل يحتاج إلى نقاش واسع حول ما يطرحه المؤلف من أطروحات تدل على نظر عميق؛ ليس في تجربة مجتمعات المسلمين فقط؛ بل في تاريخ المجتمعات الإسلامية بعامة. لذا سيكون حديثي عن المقدمة متأخرا لحين الانتهاء من قراءة الجزء الثاني والثالث من الكتاب ثم العودة وقراءة المقدمة مرة أخرى. ويجب التنبيه هنا على أن كتاب هودجسون لا يمكن تلخيصه، فهو كتاب غني بالأفكار، وأظن أنني سأعود إليه مرات ما دام في العمر بقية، فهو من الكتب التي ستصحبني في الجنة.

‎يركز هودجسون على مفهوم التقليد الثقافي لتحليل مجتمعات المسلمين منذ لحظة التأسيس مع النبي محمد، وحتى نهاية ما يسميه بعصر الخلافة العليا (الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية حتى دخول البويهيين بغداد). إذ يعتمد هذا المفهوم لديه على الفعل الخلاق (لحظة الوحي)، ثم التزام المجموعة به، والتفاعل التراكمي معه داخل المجموعة. وهو ما قاد فيما بعد إلى وجود حوار لمجموعات متعارضة حول تفسيرها لما يجب أن يكون عليه الإسلام، وبالتالي ظهرت الأفكار التي تبلورت في ظروف اجتماعية واقتصادية سريعة التبدل والتغير في شكل الفرق التي عرفناها كفرق سياسية/دينية.

مارشال هودجسون
مارشال هودجسون

‎يناقش هودجسون العالم قبل الإسلام، وفيه يقدم رؤية عميقة وأطروحات تناقش حول المساحة الواقعة من النيل إلى جيحون، ويرى أن المسلمين لم يرثوا التقليد الفارسي السامي فقط بل كانوا على درجة كبيرة من المتابعة الإيجابية له، وهو يرى أن الثقافة التي هيمنت على هذا الفضاء الحضاري ذات طبيعة زراعية، هيمن فيها سكان المدن على معظم إيرادات الأراضي، وعبر فائض الأرباح تمكنوا من تمويل مختلف أشكال الحياة الثقافية، بينما تركوا أهل الريف للفقر وحياة الكفاف. وهو يقدم عرضا بديعا لتطور هذه المنطقة في الفترة ما قبل الإسلامية.

‎ويقسم هودجسون العالم القديم إلى أربعة مركبات من التقاليد الحضارية الكبرى: المركب الأوروبي بمنطقته المركزية الممتدة من الأناضول إلى إيطاليا. والمركب الممتد من النيل إلى جيحون، بلغاته السامية والإيرانية، والمركب الهندي، والمركب الصيني.

‎تعد دراسة هودجسون للفترة المراونية (حكم عبد الملك بن مروان وأولاده) من أمتع وأعمق ما قدم، فهو يعطي هذه الفترة المحورية في تشكل الإسلام التاريخي حقها من الدرس، فبفضل سياسية عبد الملك/ الحجاج تم تأسيس مركزية السلطة، ما ساعد على نشأة بيروقراطية الدولة، وتم اعتماد الخيار العسكري لفرض مفهوم الجماعة (المجتمع الموحد)، وهي إجراءات كانت محل اعتراض مجموعات تقوية عبرت عن نفسها في أشكال من الاعتراض الديني مختلف الاتجاهات والمشارب.

https://www.youtube.com/watch?v=AO_I6a4lL0s

‎يناقش هودجسون كيفية استجابة أهل التقوى للتفاعلات التاريخية، ما أدى إلى بروز مجموعات تبحث عن تصور مثالي للمجتمع المسلم كل من وجهة نظر مختلفة، مثلما هو حال الخوارج والشيعة. بينما طور أهل السنة أخلاقا تتناسب مع حال الأغلبية الناجحة تاريخيا. ثم يعرج سريعا على نشأة المعتزلة وأهل الحديث باعتبار الأخيرة الحركة الأكثر شعبوية. ثم يتناول ازدهار الفلسفة وعلم الكلام، والأدب باعتباره واجهة البلاط والمعبر عن ثقافته.

‎ينظر هودجسون نظرة تقدير واحترام إلى حضارة المسلمين، وهو هنا ينطلق من اعتبار هذه الحضارة أحد أجزاء الحضارة الإنسانية، لذا يهاجم بوضوح فكرة المركزية الأوروبية التي حاولت قولبة التاريخ العالمي -الذي لم تتسيده أوروبا الغربية إلا في القرنين الأخيرين- في قالب قصة سعيدة للرجل الأبيض الأوروبي ينتصر فيها دوما ويحمل مشعل الحضارة دائما، وهي بطبيعة الحال أكذوبة لا تصمد عند استعراض التاريخ العالمي بما في ذلك حضارات ما بين النيل ودجلة، وحضارة الصين والهند وبقية أنحاء العالم.

الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية

‎تظل ترجمة أسامة غاوجي استثنائية وإبداعية لهذا العمل الجبار، ما قدمه في الترجمة يدرس، ويظل معلمة على جيل جديد من المترجمين العرب (معظمهم من الشباب) يمتلكون أدوات المترجم والمفكر الواعي بضرورة ترجمة الكتب المرجعية في مجالها إلى العربية بلغة منضبطة ومخلصة لروح المؤلف الأصل وروح اللغة العربية. مجهود غاوجي لابد أن يحتفى به على قدر ما بذل لإنجاز ترجمة نص صعب يمتلك لغته الخاصة ومصطلحاته المتفردة.

‎(#هوامش_القراءة)حسن حاقظ

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker