في عام 2016، قررت الشاعرة العراقية المقيمة بأمريكا دنيا ميخائيل خوض مغامرة العودة للوطن لتسجيل مأساة الهاربات من جحيم داعش من خلال الشهادات الحية. وفي عام 2017 صدرت تلك الشهادات في كتاب بعنوان “سوق السبايا” تضمن عشرين شهادة موثقة لناجيات من قبضة دولة الخلافة؛ روين فيها ما تعرضن له من صنوف العذاب من اغتصاب متكرر وتنكيل إلى البيع كسلعة في أسواق النخاسة.
جاءت الشهادات بالغة القسوة بشكل لا يصدق.. أهوال يقف أمامها العقل حائرا في ما يمكن أن يصل إليه البعض من وحشية وإجرام تحت وهم الأفكار الضالة والأيدولوجيات المتطرفة التي تبرر الجريمة وتشرعن الفجور حتى صارت حفلات الاغتصاب طقسا يوميا عقب صلاة العشاء!.
خلَّفت تلك التجربة الأليمة جروحا غائرة في وعي الشاعرة العراقية وروحها؛ فأرادت الخلاص من ذلك الحمل من خلال عمل روائي يكون بمثابة شهادة للتاريخ عن محنة وطن مازال يتخبط في دمائه منذ فجر التاريخ. فكانت “وشم الطائر” رصدا حيا لوقائع ذبح العراق من الوريد إلى الوريد بجريرة الجمال وخطيئة البراءة وإثم الصمت حين أزهرت حدائق الشيطان.
سيكون من الجيد أن نراجع مقولة أن التاريخ يكتبه المنتصرون؛ لأننا سنرى من خلال أحداث الرواية تاريخا حيا يكتبه المدحورون والممزقون والمذهولون تحت سياط القهر والهاربات من نير الانتهاك والاغتصاب وأسواق النخاسة.. تاريخ سيعيد للذاكرة العربية وهجها الحارق لكل أقاصيص بعض كتب التراث التي بيعت ذات يوم على أرصفة شوارعنا العربية في بغداد والموصل ودمشق والقاهرة- .
سوق السبايا
في قرية “حليقي” غير الموجودة على الخريطة عاشت “هيلين” قبل أن ترتبط بالصحفي “إلياس” وترحل إلى الموصل لتعيش هناك وتنجب ابنيها يحيى وياسر، وعندما تسقط الموصل في أيدي الدواعش يذبح الزوج وتسبى “هيلين” أما الولدان فيتم إعدادهما وتدريبهما ليكونا من جنود دولة الخلافة.. وعندما ينتزع البرابرة من أيدي النساء خواتمهن الذهبية لا يجدون خاتما في إصبع “هيلين” فقد كان خاتمها نقشا لطائر القبج لا يمكن انتزاعه أو سرقته في إشارة لبقاء الأمل الذي يستعصي على السلب.
تبدأ “هيلين” رحلتها في سوق السبايا لتباع لرجل اشتراها عبر الانترنت، لتنقل من حوزته إلى مالكها الثاني “عياش” الذي ينتهكها يوميا، لكنها ستكتشف بعد مقتله أنه كان أحسن من غيره. ومع محاولتها الأولى للهرب تذهب إلى قرية المهتدين حيث تلتقي أخاها آزاد الذي صار خادما للحكام الجدد وهناك تكتشف أن ولديها صارا من رجال دولة الخلافة.. لكنهما سيفيقان من أوهامهما عندما يشاهدان مقطعا مصورا لذبح والدهما، بينما ينجح آزاد في الفرار؛ ليبدأ رحلة إنقاذ شقيقته عن طريق فرق إنقاذ السبايا -هم في الحقيقة مجموعة من السماسرة- لتتمكن “هيلين” من الهرب من جحيم داعش برفقة ولديها لتبدأ حياة جديدة في كندا، وهناك تستعيد “هيلين” ذكريات قريتها القديمة ورقصة الطير الجريح، حيث يتمايل الراقصون على نغمات الناي الحزينة في استسلام كامل للمصير المحتوم.
حفلت الرواية بالأشخاص والمواقف والأحداث التي شكلت عالما رحبا ينفتح على آفاق الصراع الأبدي بين الأضداد.. بين وداعة إيزيديي الجبال الذين يتفاهمون بالصفير كما الطير، وجنود داعش بكل ما يحملونه من الخشونة والقسوة، صراع بين عالمين الأول يكاد يغرق في بساطته وأوهامه وآخر لا يعرف إلا لغة الدم والتجبر.. رغم ذلك لم يغر هذا الصراع الشاعرة الروائية بأن تقدم لنا نماذج إنسانية مسطحة، لنجد هنا وهناك خليطا من نوازع الخير والشر.. ربما للتأكيد على أن الصراع داخلي بالأساس.. ومع روح التعاطف القوية لدى الكاتبة تبدت لنا معالم ذلك المجتمع المجهول الذي تشيع عنه الكثير من الخرافات والأفكار المغلوطة مجتمع الإيزيديين.. وكان التركيز على العادات والتقاليد والقصص الشعبي والخرافات دون التطرق إلى العقائد؛ فجاءت الصورة العامة كلوحة فسيفساء تحمل الكثير من التفاصيل البديعة مع التأكيد على المسالمة التامة التي تصبغ الشخصية الإيزيدية في مواجهة طوفان العنف غير المبرر.
في الغالب عندما نكون في انتظار عمل روائي لشاعر- تتزايد توقعاتنا حول اللغة وطبيعتها ومدى مناسبتها للعمل الأدبي بحكم أن الشاعر في الغالب لا يستطيع النجاة من غواية اللغة، هذا محظور لا يسهل التحرز منه.. ونحن هنا لا ندري هل كانت دنيا ميخائل شديدة الحرص على مفارقة لغة الشعر بشكل كلي أثناء كتابتها للرواية ربما للبرهنة على قدراتها الروائية أم أن هيمنة الجانب التوثيقي كان الحائل بين الرواية والشعر للدرجة التي جعلت اللغة تقترب كثيرا من التقرير. ما جعل البعض يذهب إلى القول أن الرواية ما هي إلا إعادة صياغة لكتاب “سوق السبايا” مع إسباغ بعض السمات الأدبية التي لم تظهر كثيرا.. وكان مكمن الضعف الواضح في الحوار الذي بدا مفتعلا في أغلب الأحيان.
وبالرغم من أن الرواية مليئة بالأحداث التي تصل بالقارئ إلى حد البكاء لهول الفظائع التي وقعت بهؤلاء النسوة البريئات إلا أن الكاتبة قد حافظت على إيقاع متوازن لم تفلته حتى في المواقف التي فرضتها روح المغامرة التي كست مشاهد تحرير الإيزيديات من الأسر.. من السهل أن نلمح أيضا تلك الحالة من المراوحة في السرد التي تجعل النص في حالة من الدوران المستمر بحسب أنه لا جديد يستوجب الحجب إلى نهاية الرواية، ولا سبيل للحسم فالكل عالق في الهومة الممتدة باتساع الوطن العربي “الكسير”.
عن الخوف والألم
وبالرغم من الواقعية الشديدة التي اتسمت بها الرواية إلا أنه من الممكن التوقف عند عدد لابأس به من الرموز والإشارات والدلالات.. فتلك القرية الجبلية الإيزيدية لا وجود لها في الواقع ما يعنى أن ذلك العالم المسالم الذاهل عن حقائق القبح لم يعد له وجود فعليا، ويتسق مع ذلك فكرة طائر القبج الجميل الذي يصبح جماله نقمة عليه فيفقد حريته ويمسي حبيس القفص، ما يشير إلى ضرورة الانتباه إلى كل تلك المتغيرات ومجابهتها بما تستحق من الوعي والحذر.
من المهم أيضا أن نلتفت إلى فكرة ارتباط الخلاص بالخروج من الوطن واللجوء إلى الغرب؛ كونه واحة الحرية والديمقراطية.. وهي فكرة تستحق التوقف عندها كثيرا، ومن المعلوم أن الكاتبة مقيمة في الولايات المتحدة، وليس مطلوبا بطبيعة الحال من الكاتبة أن تخالف الواقع أو تخاصم قناعاتها الشخصية.. لكن ما يمكن أن نلمح فيه وجها للاستفادة هو تلك الخصوصية التي يتميز بها الشرق متعدد الأعراق والأصول والمذاهب، وضرورة الحفاظ على ذلك الطابع الذي يحاول الدواعش ومن وراءهم محوه وتغييره إلى الأبد.
وشم الطائر هي رواية عن الخوف والألم والحزن العميق الذي يطالنا بصور مختلفة، رواية توقظنا بوخذ الأسنّة لنرصد خوارج هذا العصر ليس في العراق والشام فقط، بل في أغلب بقاع وطننا العربي، وهم لا يعلنون عن أنفسهم في انتظار اللحظة المناسبة، لكنهم لا يتورعون عن الجهر ببعض ما يعتقدون بشأن من يخالفهم الرأي على سبيل التخويف والإرهاب.. والغريب أن بعضهم يطل علينا في البرامج المتلفزة وعبر المواقع دون أن يتكلف أحد الرد بما هو مناسب.
من المؤكد أن ذلك الوشم لن يزول أبدا؛ رغم كل تلك المحاولات شديدة الإيلام لمحوه، وسيحلق طائر القبج من جديد إلى الذرا حين ستوجد “حليقي” في أفكارنا المتسامحة والمسالمة والواعية، قبل أن نحاول العثور عليها في خرائطنا المطموسة أو ذاكرتنا المتداعية.