فن

خيري بشارة.. الرومانسي المتمرد

بعد أيام قليلة يبدأ المخرج الكبير خيرى بشارة عامه الخامس بعد السبعين قضى معظمها فى صناعة الفن سواء من خلال نافذة السينما القصيرة والأفلام الوثائقية أو السينما الروائية الطويلة ثم عرج ليقدم عددا من المسلسلات التلفزيونية.

وعبر تلك المسيرة الحافلة كان بشارة – المتمرد الواقعي – يختال بكاميرا شديدة الحساسية قادرة على التقاط التفاصيل الصغيرة والاعتناء بها لتشكل لوحة فنية مبهرة وجذابة.

جاء الشاب الصغير من عالم السينما القصيرة والوثائقية إلى عالم الفن السابع محملا بروح مبهجة رغم تفاصيل الحزن التي رصدتها عدسته فى واقعنا.

يدرك بشارة جيدا أن الفن هو انحياز للناس وأنه مسؤول عن التعبير عنهم وكشف أوجاعهم وأيضا إسعادهم من خلال صناعة فنية بها من السحر والبهجة ما يستحقه المشاهد ، ولذلك سوف تجده أحد القلائل من مخرجي السينما المعاصرة فى مصر الذين امتلكوا مهارة التجديد وقدرة التغيير فى مشوارهم الفني ، فهو أحد أبناء مدرسة الواقعية الجديدة التي ظهرت واضحة  فى فيلم “العوامة 70 ” كما أنه أحد رواد سينما الفانتازيا والتي بدأها مع فيلم “كابوريا ” ليقف بذلك على كلا المدرستيْن  فى السينما ويقدم كلاً منهما باقتدار وحرفية،  لكن رغم ذلك التنوع فى الشكل إلا أن قدرته على التحليل الاجتماعي ورصد التناقضات ظلت إحدى مميزاته الهامة دائما.

هو المتيم بالإنسان بكل تناقضاته الكاره دوما للعوالم الضيقة والباحث عن الرحابة والانطلاق ويرى أن مسيرة حياته تشبه فيلم طويل به الكثير من الوجع والمعاناة والكثير من المتعة والبهجة.

ذلك الرومانسي الذي حالت رومانسيته بينه وبين التنظيم الطليعي عقب هزيمة يونيو رغم عدم رفضه له لكنه المتمرد على كل القيود المنتمي للإنسان.

الميلاد فى أحضان يوليو

فى 30 يونيو من عام 1947 ولد خيري بشاره حينذاك كانت مصر على أمل أن ينفذ الإنجليز وعدهم الذي قطعوه بمنح مصر استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ولكن هذا لم يتحقق بينما كان الطفل الصغير يعيش مع والدته فى إحدى قرى طنطا انطلق الراديو يعلن بيان ثورة 23 يوليو

بعد ذلك يعود خيري إلى القاهرة ليبدأ مشوار التعليم فى حي شبرا ويبدأ معه ولعه بالسينما ورغبته في الدخول إلى هذا العالم السحري

التحق بالمعهد العالي للسينما وتخرج فيه عام ١٩٦٧ كانت هزيمة يونيو قد كسرت الجباه وسطرت الحزن على الوجوه وأفقدت الكثير من جيله ثقتهم فى أنفسهم وفى مستقبلهم وكان خيري يرى فى الكاميرا سلاحه الذى يتقن القتال به والدفاع عن روحه متقدة متوهجة رغم مرارة الهزيمة

فى نفس العام أنشئ المركز القومي للأفلام التسجيلية مما فتح آفاق لجيل من السينمائيين الشباب للتعبير عن أنفسهم وكان خيرى فى طليعة هؤلاء حيث ظهرت جماعة السينما الجديدة التى كانت تعبيرا عن متغير سياسي واجتماعي وفكري كبير خلفته الهزيمة والرغبة فى النصر وتصحيح الأوضاع والتي ضمت مخرجين شبان حينذاك منهم محمد راضي (المنسوب له تأسيس جماعة السينما الجديدة) وعلي عبد الخالق ( مخرج “أغنية على الممر”) والفلسطيني غالب شعث ( مخرج “الظلال في الجانب الآخر”) هذا بجانب رأفت الميهي وداود عبد السيد وأشرف فهمي، والمصورون محمود عبد السميع وسعيد شيمي وسمير فرج، والنقّاد سامي السلاموني وسمير فريد ويوسف شريف رزق الله واخرون ممن لمعت أسمائهم فيما بعد. ولكن كإنتاجات تحت راية الجماعة لم يظهر للنور غير فيلم “أغنية على الممر” والظلال في الجانب الاخر” وقد منعت الرقابة عرض الأخير ثم أتاحته بعد فوزه في مهرجان كارلو فيفاري في تشكوسلوفكيا.

السينما بكل أشكالها

وفى عام 1968، توجه إلى بولندا لدراسة الزمالة على سنة واحدة، وهناك التقى زوجته ” مونيكا كووالتشيك ” وتزوجا عام 1969،

عاد من بولندا عمل في السينما التسجيلية، وقدم عددًا من الأفلام التسجيلية المهمة، مثل «صائد الدبابات ـ 1974»، و«طبيب فى الأرياف ـ 1975»، و«طائر النورس ـ 1977»، و«تنوير ـ 1978»، تلك الإعمال التى كشفت عن موهبة واعدة ومخرج كبير ..

فى عام 1980 كان أول أعمال بشارة الروائية الطويلة مع فيلم «الأقدار الدامية» وهو إنتاج مشترك مع الجزائر ولم يحظَ الفيلم بأية فرصة للعرض داخل مصر لأسباب عديدة وكان بطولة نادية لطفي، واحمد زكى وأحمد محرز، ويحيى شاهين،

فى عام 1982 قدم فيلم «العوامة رقم ٧٠»، الذي قدمه عام ١٩٨٢ والذي يمثل البداية الحقيقة لبشاره فى السينما الروائية الانطلاقة الحقيقية لخيرى بشارة كمخرج جديد، بأدوات جسدت ما سعت إليه مدرسة الواقعية الجديدة التى كان بشاره أحد روادها مع محمد خان وعاطف الطيب وداود عبد السيد وآخرين

استطاع فى هذا الفيلم أن يلفت الأنظار بقوة وهذا ما ساعده على تقديم فيلم أحد روائعه “الطوق والإسورة ” عام 1986 المأخوذ عن قصة الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله بنفس الاسم ليؤكد مجددا أننا أمام مخرج مختلف يمتلك صورة ساحرة وقدرة عالية على التحليل عبر الفن

وفى عام 1988 يلتقى بشارة مع سيدة الشاشة العبرية فاتن حمامة من خلال رائعته “يوم مر ويوم حلو ” الذى يمثل ذروة النضج الفني فى تلك المرحلة ويكشف بشاره من خلاله عن ولعه بالتفاصيل الإنسانية وقدرته على رصد الواقع الاجتماعي بعمق وروعة ويروى بشارة أنه : ” ذات مرة تركت أمي في المستشفى وتجولت بشوارع شبرا، شعرت وكأنني فى باريس، وأكثر أفلامي عكست رؤيتي لها، هو فيلم «يوم حلو ويوم مر»، فيعتبر نتاج تجربتي بها وأفكاري التى كونها والمواقف اليومية التى مررت بها، بالتحديد شخصية «سيمون»، فهي شخصية موجودة على أرض الواقع “

من الواقعية إلى الفانتازيا

ويروى بشارة أن توقفه عن تقديم الأعمال الواقعية قائلا ” كنت أسير بسيارتي ذات مرة واستوقفني واحد من الجماهير، وأخبرني بأنه أصيب بذبحة بسبب فيلمي «يوم حلو ويوم مر»، الجملة هذه «رجتني من جواييا»، وأدركت أن عملي سبب غير مباشر فى إصابته، ومن ثم قررت أن أغير اتجاهي “

وتبدأ مرحلة جديدة فى سينما بشارة مع فيلم “كابوريا ” عام 1990 بطولة أحمد زكى ويكشف الفيلم عن عالم جديد تمام يتمثل فى شخصية “حسن هدهد ” الملاكم الفقير الذى يتحول إلى وسيلة للتسلية عند بعض الأغنياء

وفى عام 1992 يقدم “أيس كريم فى جليم ” بما يمثله من سحر فنى مبهر ورسم عميق للشخصيات واستخدام مميز للأغنية والموسيقى داخل العمل وهذا ما استمر في فيلم “أمريكا شيكا بيكا “عام 1993 و”قشر البندق عام ” 1995″ وأشاره مرور عام 1996

https://www.youtube.com/watch?v=Qr5lg1GMX3Q

وتمثل تلك السلسلة من الأعمال التى قدمها بشارة فى حقبة التسعينيات حالة مكتملة فنيا وفكريا عبر خلالها عن هذا الانحياز المطلق للحرية وذلك الإيمان الراسخ بالإنسان خاصة هؤلاء البسطاء والمهمشين الذين جسدهم فى أعماله فلن تجد أبطال “بشارة ” بعيدا عن هذا النمط الإنساني المركب رغم بساطته والسعيد رغم معاناته القادر عن الحياة بكل ما فيها من وجع وكل ما حوله من مخاطر لكنه يظل دوما يبحث عن السعادة مؤمنا بحقه فى الحياة

فى عام 2012 قدم تجربة فيلم “مون دوج ” وهو وثائقي به قدر كبير من السيرة الذاتية

الدراما التلفزيونية … لماذا ؟؟

وقد تعرض “بشارة “لأزمة حادة في أكتوبر 1992 حين وقع زلزال دمر العشرات من المنازل القديمة وشرد 50 ألف شخص كان من بين هؤلاء المشردين المخرج الكبير خيري بشارة

حيث كان يسكن في شقة قديمة في شبرا، فتصدع المنزل فوجد بشارة نفسه وزوجته وأولاده في الشارع وقوف صديقيه المقربين الممثل الراحل أحمد زكي الذي حجز له على الفور غرفة في أكبر فنادق القاهرة، والمخرج محمد خان الذي سعى لشراء شقة جديدة له ودعمه مالياً، لانهارت حياته

بعد سنوات وفى مطلع القرن الجديد ومع تفاقم أزمة صناعة السينما اتجه بشارة نحو الدراما التلفزيونية ربما بدوافع مادية فى البداية لكنه صرح مرارا أن العمل فى الدراما التلفزيونية أنقذه من ازمة مالية وجعله يعيش فى وضع اقتصادي أفضل وقدم بشارة عدد من المسلسلات من بينها “بنت اسمها ذات ” التى استكمل جزء منه بعد المخرجة كاملة أبو ذكرى كما قدم أعمال منها “الهروب من الغرب ” و”ريش نعام ” و”مسالة مبدأ ” و”الطوفان ” و”لعنة كرما ” و”أهل اسكندرية ” و”ملح الأرض” .

هو بشارة التجديد بين جيل من المجددين وساحر الصورة بين عمالقة الواقعية السحرية فى السينما المصرية … هو خيرى بشارة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock