فن

عن توريث الفن الذي صار سائدًا

في السنوات الأخيرة.. خاصّة خلال العقدين الأخيرين، صار المناخ الفني في مصر يضيق على الكثير من الموهوبين، الذين يبحثون عن مكان تحت شمس التحقق ووهج الانتشار ونشوة النجاح؛ لكن المقاعد الأمامية كان معظمها محجوزا لهؤلاء القادمين من صفوف التوريث.

كانت مصر تقاوم مشروع التوريث السياسي، وتمكنت ثورة 25 يناير 2011، من إجهاض مشروع توريث للحكم، كان قائما بقوة لنجل الرئيس، وأطاح الملايين بذلك الحلم الذى راود الأسرة الحاكمة كثيرا، حتى ظن البعض أنه سيتحقق لا محالة، وأن الوقوف في وجهه درب من الخيال ومحض أوهام.

لكن مصر فشلت في إجهاض مناخ التوريث، الذى زحف إلى كل شيء منذ نهايات القرن العشرين، ليصل تقريبا إلى كل المهن والمناصب؛ حتى الفن الذى لا هو “مهنة ولامنصب ” لكنهم جعلوه مهنة وصنفوه ضمن المناصب؛ ذلك لأن الشهرة في أحيان كثيرة تخلق نفوذا ومن ثم تصنع منصبا معنويا.

توريث إيجابي

كل هذا لا يمنع أن في الفن وجوها نضرة، كاملة الموهبة والثراء، قد دفعتهم يد التوريث نحو التجربة. ومن الأجيال الجديدة لا يمكن أن نتجاوز عن موهبة أحمد الفيشاوي نجل الفنان الراحل فاروق الفيشاوي، ولاشك أن أحمد يمتلك موهبة استثنائية، لم تكشف حتى الآن عن كل ما بداخلها من ألق، ولعل تجربة أحمد الفيشاوي تستحق توقفا نقديا مستفيضا، ربما أتى لاحقا.

أحمد الفيشاوي وفاروق الفيشاوي
أحمد الفيشاوي وفاروق الفيشاوي

أما الحالة الثانية فهي تجربة دنيا سمير غانم، فقد استفادت من قوة دفع تربيتها في منزل سمير ودلال وساهمت تلك النشأة في تبلور موهبتها وإنضاجها، لكن تلك الدفعة القوية التي منحتها لها الأسرة؛ لم تكن تؤتى ثمارها لولا توافر موهبة متدفقة وغنية.

ينطبق هذا أيضا على المبدعة منة شلبي، التي بلغت درجة رفيعة من التألق؛ خاصّة في أعمالها الأخيرة، تؤكد أننا أمام حالة تمثيلية فارقة بين هذا الجيل.

إلا أن منّة التي ولدت في أسرة فنية ساهمت في دفعها للمشاركة في تجربتها الأولى في فيلم “الساحر” للمخرج الراحل رضوان الكاشف وأمام النجم محمود عبد العزيز – زوج عمتها بوسي شلبي في ذلك الحين – وانطلقت منّة لتصنع مسارها الخاص ووهجها الفني الذى يزيد يوما بعد يوم.

منة شلبي من فيلم الساحر
منة شلبي من فيلم الساحر

مروان ونادين

في مجال الإخراج، نتوقف أمام موهبة مروان وحيد حامد، والذى ساهم والده الكاتب الكبير في خلق فضاءات رحبة أمامه، حين دعمه في تجربته الأولى “لي لي” عام 2001، ثم جاء الدعم الأكبر من خلال واحد من أهم الأعمال في العقود الأخيرة، وهو فيلم “عمارة يعقوبان” عام 2006، وكان مروان قد عمل مساعدا للمخرج في عدد كبير من أفلام وحيد حامد، مثل “سوق المتعة” و”النوم في العسل” و”اضحك الصورة تطلع حلوة”.

وكذلك نادين محمد خان التي تشكّل وعيها في أحضان المخرج محمد خان، وقدمت عددا من الأعمال المبهرة رغم قلتها،  ومن بينها “أبو صدام” الذى شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دروته الأخيرة.

نجوم بلا موهبة

في المقابل.. يقف أمام الكاميرا وخلفها، مئاتٌ اقترنت أسماؤهم بنجوم كبار، ساهموا في صناعة وجدان الملايين، لكن إبداعهم توقّف عندهم، فلم يكن للأبناء منه نصيب، لم يتوقف الأمر عند الحضور الباهت للبعض، بل تجاوزه إلى الانتقاص من فرص ظهور وجوه جديدة موهوبة بحق، من خارج الأسر والعائلات الفنية؛ خاصّة في ظل انحسار الفرص مع تراجع صناعة السينما، خلال السنوات الأخيرة والارتباك الذى يشهده سوق صناعة الدراما التلفزيونية.

فرضت الصناعة ورموزها على المتلقي وجوها عديدة، لا تملك سوى نفوذ أسرها وقدرتها على الدفع بهم رغم محدودبة الموهبة؛ نذكر منهم الممثل محمد عبد الحافظ، الذي أصرّ والده المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ، على الدفع به مرارا في أعمال هامّة حققت نجاحا وانتشارا كبيرا.. لكن محاولات عبد الحافظ المتكررة لم يكتب النجاح.

كما أن الكثير من الوجوه التي فرضها التوريث –دون أدنى حضور أو موهبة– قد أصيبت بأمراض الشهرة سريعا؛ إذ لم يكونوا مهيَّئين لتلك المرحلة نفسيا ومعنويا، تلك الأمراض التي أصابت عشرات الفنانين، الذين صعدوا سريعا، دون مجهود حقيقي وتراكم فنى منطقي، كما كان يحدث مع غالبيه نجوم الصف الأول قبل ذلك.

سيقولون أن التوريث طال كل شيء وأصاب كل المهن، فصار ابن الطبيب طبيبا وابن أستاذ الجامعة كذلك وأيضا ابن الضابط ضابطا حتى الحِرَف اليدوية.

لماذا إذن نغضب إذا فعل الفنانون ذلك؟ ولماذا لا يمنح هؤلاء الفرصة والحكم في النهاية للجمهور الذي يمتلك وحده قبول الفنان أو رفضه؟

وهذا سؤال مشروع ومنطقي جدا، ولعل النماذج التي ذكرناها والتي نضيف لها في الغناء صوت مثل على الحجار أو أنغام أو غيرهم في مجالات متعددة مثل التمثيل والموسيقى والرياضة من الذين نشئوا في أسر وعائلات فنية ورياضية.

لكن انعدام الموهبة أو ضعفها هو الضرر البالغ الذى يهدد الصناعة ذاتها ويساهم – مع عوامل أخرى – في تراجع تأثير مصر الفني ونفوذها المعنوي لأن المنتج يأتي أقل مما يجب.

لا يتعلق الأمر هنا برفض مطلق لكل من ينتمى لأسرة أو عائلة فنية، فقد تكون هناك حالات عديدة تتوفر فيها مواهب حقيقية؛ لكن الرفض يتعلق بالدفع القسري والفرض الجبري لوجوه بعينها، لمجرد أنها تنتمى لعائلة فنية؛ لما ينطوي عليه الأمر من أضرار بالغة.

الأمر ذاته عندما يحاول بعض رجال الأعمال، أو منتجي المحتوى الفني؛ فرض زوجاتهم والسعي للدفع بهن عبر رؤوس أموالهم، نحو مقدمة الصفوف دونما امتلاك مقومات حقيقة لذلك الصعود، ما يؤدى إلى نتائج كارثية على المحتوى الفني، وأظنه يلحق الضرر بالشخص ذاته، لأن ذائقة الجمهور قد تقبل ذلك في بعض الأحيان؛ لكنها لا يمكن أن تُخدَع طول الوقت وإذا اكتشف الجمهور أنه تعرض لحالة تدليس فنى يُسقِط هذا الفنان/ة  إلى الأبد.

لا يمكن للتوريث أن يضع شخصا في قلوب الناس غصبا؛ مهما كانت مكانة من أورثه المقعد، ولا يفلح المال في الدفع  بآخرين إلى أعماق وجدان الجمهور مهما كان الإنتاج سخيا.. فلا شيء بإمكانه فعل ذلك سوى الصدق والموهبة الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock