مضى الشهر المؤلم في تاريخنا السياسي وهو شهر يونية، بحصيلة مجادلاته التي لا تنقطع. بصرف النظر عن مفهوم النكسة كتعبير إعلامي، صكه الأستاذ محمد حسنين هيكل، لتخفيف وقع الصدمة بسبب الهزيمة العسكرية الثقيلة، وغير المتوقعة التي وقعت في هذا الشهر من عام 1967.
لقد كان ذلك هو الاستخدام الثاني للمصطلح في أدبيات ثورة يولية، فقد كان الاستخدام الأول في ميثاق العمل الوطني عام 1962، يصف ما حدث في أعقاب ثورة 1919، والتي أسفرت عن نظام 1919 القائم على تحالف كبار الملاك مع الاحتلال البريطاني، الذي خذل ثورة 19، والذي مكن الاحتلال من الاستمرار لأكثر من سبعين عاماً. كان ذلك استخداماً أكثر منطقية. فالمفهوم السياسي هو في تحول مسار العمل الوطني في اتجاه معاكس. لكن ما حدث نتيجة للهزيمة العسكرية لم يكن كذلك. فواقع الأمر أن الرئيس عبد الناصر تمكن من احتواء صدمة الهزيمة، وقام في أعقابها مباشرة بإعادة بناء الجيش، تنظيماً وتدريباً وتسليحاً، وأضاف إليه سلاحاً جديداً هو سلاح الدفاع الجوي. ساعده وجود كادر قيادي بالقوات المسلحة من كبار الضباط، مؤهل على أعلى مستوى. فانطلقت حرب الاستنزاف التي تحولت إلى حرب حقيقية، حاول العدو في بادئ الأمر، تحويلها إلى ضربات موجعة في العمق، لكن شيئا فشيئاً ومع تقوية الدفاع الجوي ونشر قواعد الصواريخ تحول اتجاه الحرب لصالح الجيش المصري.
الاستنزاف .. نقطة تحول
يقول إرييل شارون في مذكراته:
“خلال السنوات الثلاث لحرب الاستنزاف كان المصريون يطلقون مدافعهم اليومية بلا انقطاع، فقنبلة واحدة تنفجر كل ساعة في قلب التحصينات، حيث ينشغل جنودنا بإصلاح الأضرار وتحصين المواقع كانت أكثر من كافية لشل حركتنا. وكانت هذه المبارزات المدفعية اليومية، بالإضافة إلى إطلاق المدفعية الثقيلة من حين لآخر، والكمائن والغزوات ضد دورياتنا وعربات تمويننا، تكلفنا أرواحاً غالية جداً”.
ويضيف:
“فيما كانت لائحة القتلى تطول، برزت إلى الوجود أمام أنظارنا حركة احتجاج شعبي ضد سياسة الحكومة، ورسائل احتجاج من طلاب المدارس الثانوي إلى جولدا مائير رئيسة الحكومة، ونشرت الصحف أخبار تطورات الرأي العام. كما قدمت على خشية المسرح تمثيلية نقدية لاذعة عن حرب الاستنزاف، عنوانها ملكة المغطس لكن الرقابة منعتها لأنها تنسف معنوية الشعب”. [1]
وقد وصفها أيضاً هنري كيسنجر:
“بأن ما كان يدعى حرب استنزاف أصبح حرباً حقيقية”. وأضاف: “في يوم 22 يوليه 1970، وفي الوقت الذي كانت المجابهة محتدمة، قبل ناصر وبصورة مفاجئة اقتراحنا حول وقف النار/ مبادرة روجرز، وكادت الحكومة تطير فرحاً”[2].
ويؤكد ذلك شارون حيث يقول:
” أدهشت موافقة الرئيس عبد الناصر على وقف إطلاق النار الجميع. ولم تمض ساعات قلائل حتى كُشف النقاب عن سرها: فخلال الأشهر الأخيرة كان المصريون يدفعون منصات الصواريخ تجاه قناة السويس، حتى غدا المجال الجوي فوق القناة محظوراً على طائراتنا، وإذا قرروا عبور القناة لن نستطيع منعهم”[3].
من ناحية أخرى تمكن الرئيس عبد الناصر من استعادة توازن النظام العربي، فبعد شهرين فقط من الهزيمة استصدر في قمة الخرطوم ما عرف باللاءات الثلاث (لا صلح–لا مفاوضات–لااعتراف)، وقرارات الدعم المالي لدول المواجهة، لتعويض ما فقدته مصر من عائدات البترول ورسوم المرور في قناة السويس.
وفي عام 1969 حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية في الدول العربية تأييداً لجمال عبد الناصر، رغم أنه لم يكن له يد فيها، إلا أنها أكدت أن النفوذ السياسي للرجل مازال قوياً. الأول في مايو وهو انقلاب جعفر نميري في السودان، والثاني في سبتمبر وهو انقلاب معمر القذافي في ليبيا، والثالث محاولة انقلاب فاشل في ديسمبر في السعودية، ويقال إنها كانت سببا في تعيين السادات نائبا لطمأنه الملك فيصل، نظراً لعلاقة السادات القوية بكمال أدهم مدير المخابرات السعودية.
وهذا مما جعل هنري كيسنجر يخاطب العرب من “مقر السفارة المصرية في واشنطن” رغم قطع مصر لعلاقاتها مع أمريكا عقب العدوان الإسرائيلي في يونية 67، حيث قال:
” في حين أني كنت لا أشترك أبداً في حفلات الاستقبال التي تجري في السفارات، فقد عزمت على المشاركة في حفلة دعت لها البعثة المصرية، مساء 22 سبتمبر عام 1970لأدلل جيداً أن سياستنا غير مناهضة للعرب”[4].
أما على صعيد الجبهة الاقتصادية – وبرغم الحرب الاقتصادية التي بدأتها أمريكا عام 1965، وهزيمة الجيش عام 1967، فقد ترك عبد الناصر اقتصاداً قوياً – يشمل تنمية صناعية وزراعية وتنمية بشرية غير مسبوقة، فتعاقد على الفرنين الثالث والرابع في مجمع الحديد والصلب عام 1968 وأتم بناء مجمع الألمونيوم عام 1969، مع عدم توقف البناء في مشروع السد العالي، حيث تم بناؤه في 23 يوليه ١٩٧٠.
في الاتجاه المعاكس
لم يكن إذن ثمة مبرر للتغيير الاستراتيجي الذي أجراه الرئيس السادات في اتجاه معاكس لنظام ثورة يوليه. فقد تسلم دولة دينها الخارجي عام 1970، لا يزيد عن ١.٥ مليار دولار (٠.٦ مليار دولار دين مدني – ٠.٩ دين عسكري) الدين المدني كان لتأسيس مصانع تنتج، وتسدد الدين من انتاجها. بالإضافة لكونه دين ميسر “لأنه طويل الأجل مدته ٢٠ سنة – فترة سماح سنتان – سعر فائدة ٢.٥% والدين العسكري لم يسدد”.
بينما ترك السادات الحكم عند اغتياله بدين خارجي بلغ نحو ٢٣.٥ مليار دولار (١٨.٥ مليار دولار دين مدني – ٥ مليار دين عسكري). والدين المدني كان ديناً صعباً “لأنه دين قصير الأجل وتسهيلات موردين، ولشراء مواد غذائية وسلع استهلاكية، وأسعار فائدة معومة تصل ل١٩ %، ولا توجد فترات سماح أي القسط الأول مدته صفر. والدين العسكري دون حروب وهو دين مشروط بشروط صعبة”. وكل ذلك بسبب الانفتاح الذي أقره السادات عام ٧٤ ليُرضي أمريكا. وبما أنه لم يكن باستطاعته بيع القطاع العام، وقتها فقد وضع قنبلة موقوتة لتدميره، بأن أصدر توجيها لوزير الصناعة، بعدم استيراد قطع غيار للآلات في المصانع، وبذلك توقفت الصيانة والاحلال والتجديد لخطوط الانتاج، مما يجعلها تتساقط الواحد تلو الآخر، وبالتالي تزيد التكاليف عن الإيرادات، فيصبح القطاع العام فاشلا وخاسرا.
هل حدثت النكسة عام 67 أم عام 76؟
خلال السنوات الأولى من حكم السادات ظهرت المشكلة الاقتصادية، بسبب سياسة الانفتاح الاقتصادي. فلجأ للدكتور عبد المنعم القيسوني وزير اقتصاد الأسبق عام ٧٦، والذي قال: “انني فوجئت بحجم العجز في الموازنة العامة وفي ميزان المدفوعات، وانه هناك ديوناً فاتت مواعيد استحقاقها ولم تسدد”. فاضطر للذهاب لصندوق النقد الدولي في آخر عام ٧٦ ليطلب مساعدته. فقدم له الصندوق برنامج السيطرة، المعد منذ عام ٧٣ للدول التي تسقط في فخ الدين. وهو البرنامج الذي كانت أول تجربة له في شيلي بعد انقلاب بينوشيه على سلفادور الليندي. ويتضمن إلغاء الدعم وتحرير الأسعار ففعل، فكانت انتفاضة ١٨ و١٩ يناير 1970 التي عمت البلاد من الاسكندرية لأسوان.
شعر السادات بأنه فقد الشرعية التي حصل عليها بسبب حرب أكتوبر، التي تضررت بسبب خروجه عن الخطة العسكرية، التي وضعها قادة الجيش مما سبب الثغرة، وحصار الجيش الثالث. بجانب عقد اتفاقات فك الاشتباك الأول ثم الثاني عامي 74 و75، ووفقاً لهما سحب الأغلبية الساحقة من القوات العابرة.
ولما وجد نفسه قد خسر 99% من أوراقه، هرب للأمام في نوفمبر من نفس العام بزيارة إسرائيل وخطاب الكنيست. حيث خلال الفترة 77 – 79 عارضه وزراء خارجيته الواحد تلو الآخر. إسماعيل فهمي، ثم محمد رياض، وأخير محمد إبراهيم كامل الذي استقال أثناء المفاوضات، في واقعة لم تحدث في تاريخ دول العالم.
وفي سبتمبر1981 قام السادات باعتقال كل قادة المعارضة في ضربة واحدة، فكانت القاضية باغتياله من طرف الجماعات الإسلامية، التي أسسها لضرب خصوم سياساته المنحازة لخطة الولايات المتحدة.
وعندما تسلم مبارك الحكم، وجد أن كل حصيلة مصر من النقد الأجنبي عام 1982 تذهب لخدمة الدين الخارجي (أقساط وفوائد). ولقد حاول الرجل أن يقاوم الخضوع خلال الفترة الأولى من حكمه، ولكن حجم الدين الخارجي أرغمه عام 1987 عل الذهاب لنادي باريس لجدولته، فطالبوه ببيع القطاع العام، فظل يراوغ مدة ثلاث سنوات، ولكنه استسلم في نهاية المطاف – خصوصا بعد اغتيال الدكتور رفعت المحجوب عام 1990، الذي كان يعارض الخصخصة – ففي عام ١٩٩١ وافق على برنامج مشترك لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي تم من خلاله بيع القطاع العام، والقضاء على الطبقة العاملة.
لذلك فالسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه، متى وقعت النكسة عام 67 أم عام 76؟
فهزيمة ٦٧ على فداحتها هزيمة عسكرية. لم يحدث استسلام بسببها، أو ردة عن النظام الاقتصادي نحو التبعية. بينما الردة حدثت في منتصف السبعينيات دون مبرر اقتصادي أو عسكري.
يؤكد إسحاق رابين، رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي عام 67 ورئيس وزراء اسرائيل فيما بعد، هذا” المعنى الاستراتيجي” حيث يقول في مذكراته:
” إن من اختصاص المؤرخين الإجابـة عـلى السـؤال: “كيـف كـان سـيبدو الشرق الاوسـط، ووضـع إسرائيـل، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، لو استمر عبـدالناصر في قيـادة مصر”.
ويضيف:
“ولكـن احـدا لا ينكـر الفرضـية الاكيـدة: وهي ان وفاة عبد الناصر في أواخر سبتمبر١٩٧٠، وتـولى انـور السـادات مهـام الحكـم، اثـارت تحـولا هـائلا، في الاوضاح العسكرية والسياسية في المنطقة، ومكانة الدولتين العظميين، في الشرق الاوسط والعالم اجمع”[5].
المراجع:
[1] – أرييل شارون (ترجمة: أنطوان عبيد): مذكرات أرييل شارون، (بيروت: مكتبة بيسان)، ص298.
[2] -هنري كيسنجر (ترجمة: عاطف أحمد عمران): مذكرات هنري كيسنجر، الجزء الأول، (بيروت: الأهلية)، ص507
[3] -أرييل شارون؛ نفس المرجع السابق، ص ص303-304.
[4] -هنري كيسنجر: نفس المرجع السابق، ص573.
[5] -إسحاق رابين (ترجمة: دار الجليل): مذكرات إسحاق رابين، الجزء الثاني، (عمان: دار الجليل، 2015)، ص9.