بقلم علي الحفناوي، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952، دخلت الحياة السياسية المصرية في دوامة من التقلبات اليومية وتغيير للوزارات، أنهت على ما كان متبقيا من استقرار للحكم الملكى، وظهرت أصابع المستعمر وهى تضغط وتحرك للاحتفاظ بامتيازاته وحماية مصالحه… وعن قضية قناة السويس فى تلك الأيام العصيبة، يروى الدكتور مصطفى الحفناوى ما يلى:
كان حتما أن أتغلب على خصوم القضية الذين قال عنهم “شارل رو” إنهم أصدقاء الشركة الذين يستعديهم ضدي، وأولهم الملك فـاروق كما قال، ثم الأحزاب السياسية والحكام من غير استثناء… وقد فوجئت بزيارة لي من الأستاذ الدكتور حسن حسني، السكرتير الخاص للملك فاروق، الذي هنأني على رسالتي باعتباره باحثا تناول قناة السويس من الوجهة التاريخية في رسالة دكتوراة سبقت رسالتي، ولكنه اعتذر لي بأنه وقع في أخطاء جسيمة لأنه اعتمد على مراجع أوروبية مضللة، حتى إنه وصف “فرديناند دي لسبس” بأنه مهندس كبير، وتبين في مؤلفاتي أن “دي لسبس” لم يتعلم الهندسة، ولم يتعلم أي لون من ألوان التعليم العالي، وإنما كان مغامرا اشتغل من أجل التمكين للغرب من استعمار الشرق، ونهب ثرواته الطبيعية واحتكار أسواقه بقناة السويس… وأشار الدكتور حسني بأن أهدى نسخة من رسالتي للملك فاروق، وذكر أنه مهتم بالموضوع.
وعلمت فيما بعد أن الملك فاروق كان حاقدا على شركة قناة السويس، لأنها تحدته ورفضت تعيين كريم ثابت وإلياس أندراوس عضوين في مجلس إدارة الشركة. وتأزمت العلاقة بين القصر والشركة إلى حد أن الملك طلب من المرحوم مصطفى النحاس، وقت رئاسته للوزارة، البحث عن وسيلة قانونية لطرد هذه الشركة من مصر لأنها تحدت الملك وشقت عصا الطاعة عليه… وسافر النحاس إلى باريس في يوليو سنة ١٩٥٠ لبذل مساعيه الحميدة، وسويت المسألة بقبول الشركة تعـيين المهندس أحد عبود عضوا بمجلس إدارتها، وتعيين إلياس أندراوس مندوبا لمصر لدى شركة قناة السويس، ورفضت اسم كريم ثابت؛ وقد أفضى لي صديقي وزير التجارة يومئذ بهذه المعلومات… لذلك لم يكن عجبا أني تلقيت من القصر كتابا بتوقـيع كبير الأمناء، المرحوم عبد اللطيف طلعت، أبلغني فيه تهنئة الملك لي على الرسالة، وكان الكتاب يفيض بعبارات المدح والتقدير التي وردت في الكتاب، على خلاف ما جرت به العادة في مثل هذه المناسبة.
ودعاني الدكتور حسن حسني لزيارته بقصر عابـدين، وأبلغني أن الملك فاروق أمر بأن توضع تحت تصرفي أوراق خلفها جده الخديوي إسماعيل في موضوع قناة السويس، علي أن أجد فيها ما يفيدني في البحث. وكانت هذه الأوراق باللغة التركية، وقد نقلها إلى اللغة العربية الركيكة مترجمة بالقصر. ومنها عرفت حقيقة الدور الجبار الذي لعبه إسماعيل ضد دي لسبس وشركة قناة السويس، والمعركة الي خاضها ضدهم، والتي كلفته عرشه، على الرغم من سلوكه وأخطائه الأخرى… وقد كان حتما أن أورد هذا كله في الجزء الأول من كتابي، ودافعت عن إسماعيل دفاعاً مازلت أومن به أشد الإيمان، وقلته علانية لقادة ثورة يوليو سنة ١٩٥٢ حينما قامت الثورة. وأكثر من ذلك، دعيت لإلقاء محاضرة في الموضوع بجمعية الدراسات التاريخية بأرض المعرض الزراعي، وحضرها الوزراء جميعا وكثيرون من الوزراء السابقين. ومن هذه الناحية عرفت كيف أقطع الطريق على دسائس شركة قناة السويس، واستعداء القصر واستعماله ضدي.
ودعاني صديقي الأستاذ فكري أباظة لشرح القضية في محاضرة بنقابة الصحفيين عن قضية قناة السويس، وكان فكري أباظة يومئذ نقيب الصحافة، وعقب على محاضرتي بخطاب مشحون بالانفعال، حتى إنه بكى وأبكى الحاضرين، وكذلك حاضرت في دار حزب مصر الفتاة، وفي أماكن متعددة بالقاهرة والإسكندرية، وفي مدرجات الكليات الجامعية ومعاهد العلـم. أما عن مواقف الحكومات التي تعاقبت مني، فقد كانت ودية للغاية، وبيان ذلك ما يأتى:
دعاني رئيس مجلس الوزراء المرحوم الدكتور علي ماهر لمقابلته بمكتبه، وتحدث معي في حتمية الاستعداد لتصفية شركة قناة السويس، وأفاد أنه قرر إنشاء وكالة وزارة ملحقة بمجلس الوزراء يكون التجهيز والاستعداد للتصفية مهمتها، وأن أعين شخصيا في هذا المنصب ليتم تنفيذ ذلك كما أتمنى، وطلب مني أن أستعين بمجلس أعلى لشئون قناة السويس، تاركا لي اختيار أعضائه، وأمرني بإعداد المراسيم والقرارات اللازمة لذلك في سرية تامة، وأن أسلم مشروعها في أقرب وقت مكن… وتصادف أني كنت قد حجزت مكانا لي بالباخرة الإيطالية “أسبيريا” من الإسكندرية في طربقي إلى باريس، وأني ارتبطت بموعد هام مع موكلين لي هناك، وأفدته أني مسافر في اليوم التالي، فقال – رحمه الله – إن سفري هذا لا يمنعني من إعداد الصيغة التي طلبها، وأمر بأن أبعث إليه بداخل الحقيبة الدبلوماسية من سفارة أقرب بلد في أوروبا أصل إليها. ومن أجل ذلك حملت ضمن أمتعتي آلة كاتبة عربية لإعداد الصيغ وكتابتها بيدي مراعاة للسرية التامة.
وأبحرت “أسبيريا” في موعدها، وبعد تناول الإفطار في صباح يوم رحيلي جلست في مكان منعزل بأحد صالونات الباخرة، وبعد تناول فنجان من القهوة أمسكت بالقلم لكتابة الصيغ المطلوبة، وسمعت إذاعة القاهرة الصباحية، وجاء في نشرة الأخبار أن أزمة وزارية حدثت في القاهرة، وأن ماهر قدم استقالته وقبلها الملك فاروق، وعهد بتشكيل الوزارة الجديدة إلى المرحوم الأستاذ أحمد نجيب الهلالي. وعلى الفور طويت أوراقي ولم أكتب شيئا قط، واعتبرت المسألة منتهية.
وبعد هذه الرحلة عدت إلى القاهرة، ولم أطلب مقابلة رئيس الوزراء الجديد، وإنما انصرفت لتجهيز أول عدد من جريدة قناة السويس. وبعد ظهر أحد الأيام، تلقيت مكالمة تليفونية من ديوان الملك تدعوني لمقابلة رئيس الديوان، الدكتور حافظ عفيفي، بمكتبه بقصر عابدين في الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم. لم أكن قد عرفت المرحوم حافظ عفيفي من قبل، وحينما قابلته بادرني بالسؤال الآتي: هل دعاك رئيس الوزراء الجديد لمقابلته؟ وأجبت بالنفي. فقال رئيس الديوان: إنه سيدعوك حتما لـيحدثك ويتباحث معك في الموضوع الذي تكلم معك فيه سلفه قبل استقالته. وأضاف: إن الملك أصدر تعليماته بذلك إلى رئيس الـوزراء. ثم قال لي: قريبا جدا سيصلك تقدير ملكي كببر، وإني أهنئك من الآن، وكان يضغط على كلمة كبير. ونقلت الحديث إلى صديقي صلاح الدين ليفسره فكان تفسيره: “إنها رتبة، وقد تكون الباشوية دون مرحلة البكوية. ولعل الملك مستمر في غضبه من شركة قناة السويس، ويريد أن يكيد لها. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع وطنيا من استغلال الفرصة من أجل القيمة التي تخدمها؟ ولماذا لا تحصل على الرتبة لتكسبك جاها يفيدك في المعركة ضد الشركة؟”.
وسرعان ما دعاني المرحوم الأستاذ نجيب الهلالي لمقابلته برئاسة مجلس الوزراء. وطالت المقابلة، ولكن من غير طائل، فقد كانت عبارات الهلالي فلسفية، وعبر عن مخاوفه الشديدة من الشركة، وقال إن الحكومة يجب أن تسير في هذا الموضوع الذي أوصى به الملك بحذر شديد، لأنه سيقابل بتحديات من الدول الكبرى التي تساند الشركة من بريطانيا وأمريكا. يجب أن نتأمل طويلا ونبحث عن الوسيلة التي لا تستفزهم، وسنجتمع مرات أخرى لنستأنف الكلام في هذا الموضوع، وأوصيك بالكتمان، وألا تفضى بكلمة عنه للـصحفيين الذين سيلقونك وأنت خارج من مكتبي. وإني سأواصل بجث الموضوع مع القصر الملكي. وانصرفت من سراي رئاسة مجلس الوزراء، ولم أعـد إلـيها في عهد المرحوم الهلالي الذي لم يُعمر. وقد خلفه حسين سري، ولم يدعني قط لمقابلته. ثم توالت الأزمات مسرعة، واستقال حسين، ودعي أحمد نجيب الهلالي لتشكيل وزارته الثانية التي عمرت يـوما واحدا، وأطاحت بها وبنظام الحكم برمته، وبعرش فاروق وبالملكية ثورة ٢٣ من يوليو سنة ١٩٥٢.
وبأمر إلى قيادة الثورة من فاروق قبل اعتزاله عن العرش، كلف علي ماهر من جديد بتشكيل الـوزارة، واكتفـيت بتهنئته ببرقية ولم أسع إليه. وفي الأسبوع الثالث بعد توليه الحكم اتصل بي ودعاني لمقابلته بمكتبه برئاسة الوزارة، وكانت الساعة العاشرة صباحا، وقابلني رحمه الله هاشا باشا، وقال لي: “كان يجب أن أدعوك منذ الـيوم الأول، ولكن أنت تعرف الظروف العصيبة التي قبلت فيها الحكم، فانتظرت ريثما تميل الأمور إلى الاستقرار، والآن نستأنف الحديث في موضوعك.. ألديك مانع من أن تشتغل معنا؟” قلت: “أشتغل بماذا يا رفعة الرئيس؟”، قال: لا حاجة لوكالة الوزارة التي حدثتك عنها في وزارتي السابقة. وأرى تعيينك في منصب سياسي، منصب وزير دولة بمجلس الوزراء، ويكون موضوع قناة السويس في مقدمة اختصاصاتك، وتستعين في نفس الوقت بمجلس أعلى… فهل يا ترى فكرت في أسماء أعضاء هذا المجلس منذ لقائنا في المرة السابقة؟ قلت له: نعم يا رفعة الـرئيس، إني أرشح الآتين: الدكتور عبد الحميد بدوي باشا – وهذا لا يتعارض مع منصبه في محكمة العدل الدولية طبقا لميثاق المحكمة – وأرشح الدكتور صلاح الـدين وزير الخارجية الأسبق، والمهندس طراف علي، والأستاذ حسين كامل سليم عميد كلية التجارة، وأسماء أخرى ذكرتها له.
عقب رئيس الوزراء علي ماهر بقوله: “على بركة الله، اتفقنا. وأطلب منك إعداد مشروع مرسوم إنشاء المجلس بعد أن تحدد اختصاصاته، وأسماء الأعضاء، وعلـيك أن تسلمني المشروع في أقرب وقت، وإذا لم تجدني بمكتبي ضعه في مظروف سري وسلمه إلى محيي الدين فهمي سكرتير عام مجلس الوزراء”. واتفق معي – رحمه الله – على ترك مكتب المحاماة، وأن أنتظر استدعاء لحلف اليمين أمام أوصياء العرش. ثم أوصاني بالسرية الـتامة قائلا: “لا تقل كلمة واحدة للصحفيين، وحذار أن يستدرجوك لتفضي بما عندك، وأنت تعلم أن الشركة سوف تذعر، وأن الإنجليز من وراء ظهرها يتربصون، وقد تتعقد الأمور، فكن حذرا وكتوما”.
واستبقاني رئيس الوزراء بمكتبه وقتا طويلا، وكان يدخل حجرته بعض الوزراء يعرضون عليه أوراقا، وعرفت منهم الأستاذ محمد علي نمازي، وكلما هممت بالانصراف كان يستبقيني ويقدمني لزملائه، ثم أذن لي بالانصراف. واستوقفني بفناء قصر الرئاسة صحفيون أذكر منهم الأستاذ عبد الحليم الغمراوي مندوب الأهرام، وكان شديد الإلحاح في السؤال عما جرى بيني وبين رئيس الحكومة؟ وقلت لهم “لاشئ، إني كنت أقدم التهاني لمعالي رئيس الوزراء”. ثم تظاهرت بالانشغال بموعد هام، وأسرعت بمغادرة مبنى رئاسة الوزراء)).
في الأيام التالية، بدأت مرحلة جديدة في قضية قناة السويس عندما استدعى مجلس قيادة الثورة مصطفى الحفناوى لعقد أول لقاء له مع جمال عبد الناصر في أغسطس 1952.