تململ فى فراشه الخشن قليلا، أحس بوخزات حادة تخترق جسمه ،كان السرير الخشبي قد تمرد فأخرج أعوادا صغيرة حادة ليدافع بها، فمنذ عشرة سنين تحمَّل جلوس الآلاف من الأشخاص ،ونام عليه المئات ،لم يهتم أحد لحالته التى كانت تسوء يوما بعد يوم ،لم يعد سريرا صالحا للنوم ،بل كان أشبه بكومة خشب موضوعة على أربعة قوائم تكابد الزمن جاهدة للوقوف بشكل شبه مستقيم .
كان صوت مؤذن المسجد الذى يبعد عشرة أميال يصل إلى أذنيه وهو ينادى “الصلاة خير من النوم” .
استيقظ …رتَّب حاله وأسبغ وضوءه، وأحكم إغلاق باب كوخه، ومشى بتوأدة وهو يلبى نداء ربه ،كان الوقت فجرا ،الطريق خالية تقريبا إلا من بعض المتوجهين إلى المسجد ،بالكاد ترى أضواءا فى المدينة التى لا تزال تغط فى نومها العميق، لا صوت يعلو أصوات الديكة وهي تؤدى طقسها اليومي لتساهم بدورها فى بداية يوم جديد، يخبئ فى طياته الكثير.
سينتمرات قليلة تفصل قدمه اليمنى عن ولوج المسجد، أدى التحية، وما إن فرغ حتى أقيمت الصلاة .
صلى الصبح فى الجماعة وألقى بعض التحايا الخفيفة على المصلين،وابتسامته المعهودة على محياه .
عاد أدراجه متجها نحو مخبزة “التيسير” التى تقبع خلف الحي مباشرة ،فى طريقه كانت أنامله تتحسس مسبحته الطويلة ،وهو يؤدى ورده اليومى .
كان رئيسه فى انتظاره … جهَّز له طاولة الخبز الخاصة به، ووضعها على رأسه، وشق طريقه نحو السوق بصمت، كانت أقدامه تعرف الطريق جيدا، بإمكانه أن يسير مغمض العينين حتى يصل إلى مكانه المعهود منذ عشرة سنين.
وضع طاولة أحلامه على الحافة اليمنى للطريق تحت الشجرة ،بجوار ” بائعة النعناع” الأخت خديجة ، وجلس على كرسية الحديدي القديم، كان ظهره قد احدودب قليلا ،وذقنه قد طالت عن اللزوم ،لم يُعِر ملامحه تلك التى بدأت تتغير شيئا.
منذ يومين أخبرته خديجة :
-ألا تلاحظ أنك أصبحت عجوزا، وآن لك أن تستريح ،وأخفت إبتسامة إرتسمت على وجهها .
كانت تمزح معه ،فقد إعتادت على ذالك.
أجابها وهو يتحسس قسمات وجهه الذابلة، ويمرر أصابعه على كل منها ،كأنه يفحصها .
-ذات يوم كنت شابا جميلا … إنه الزمن ياخديجة ،المهم أن قلبى لا زال شابا .
بالفعل كان قلبه شابا .
كانت الشمس تسارع دقات قلبه وهي تحاول البزوغ للوجود، وما إن طلعت الشمس حتى بدأت الحركة تدب فى كل شئ .
كان قد دأب ومنذ عشر سنوات على أن يقدم بعض الخبز مجانا وعلى حسابه الشخصى لأول وافديْن بغية شراء خبزه ، وهو مافعل اليوم .
أصبحت الحركية الآن طبيعية كما المعهود ،شرعت المحلات تفتح أبوابها ،وسيارات الأجرة ترواح المجئ والذهاب، والباعة المتجولون يكشفون عن بضاعتهم لكل المارة، والمتسولون يزوالون عملهم الروتينى … كل شئ طبيعي .
كنت أسير بسرعة نحو عملى … مؤشر سرعة السيارة يقترب من 70 ،لا أحب أن آتى متأخرا اليوم فلدي أعمال كثيرة، توقفت عند إشارة المرور الحمراء أنتظر الخضراء لأمر، لم أتناول فطورى الصباحي اليوم مخافة أن أضيع المزيد من الوقت، كانت أمعاءى حينها بحاجة إلى شئ، أشرت إلى ذالك العجوز “بائع الخبز ” لأشترى بعضه .
وفجأة كان يمشى مسرعا باتجاهى، لم يكن يبالى بالسيارات المارة … خفت عليه ،ولحسن الحظ توقف ليترك الشاحنة الكبيرة تمر ،ناديت عليه .
– تمهل يا أبى … كن حذرا .
ربما لم يسمعنى جيدا ،فواصل سيره مسرعا نحوي ،وأنا أخرج النقود من جيبى لئلا أضيع المزيد من الوقت، كان صوت مكابح إحدى السيارات التى كانت تمر مسرعة قد أحدث شيئا، وأنا مطأطأ الرأس فى جيبى لأخرج النقود.
وفجأة أخرجت رأسى… حاولت تكذيب عيني وأنا أرى العجوز “بائع الخبز ” ملطخا بالدماء، والناس تهرول نحوه، خرجت مسرعا لأرى مالذى حصل .
-لقد مات العم أحمد
هكذا قالت خديجة وهي تجهش بالبكاء .