فن

سينما يوليو.. بين التأييد والمراجعة والتشويه

هل استطاعت السينما المصرية أن تعبر بشكل جيد عن حدث بحجم “يوليو ” وتتناول بعمق حجم التأثير الذي صنعته تلك الثورة فى المجتمع المصري والعالم؟

يبقى هذا السؤال مطروحاً رغم مرور 69 عام على ثورة 23 يوليو 1952

وقد شهدت صناعة السينما تطورا كبيرا على يد “يوليو ” ما اعتبره كثير من المتابعين ان الثورة ساهمت في الإنشاء الثاني للسينما المصرية والتي ظهرت لأول مرة فى عام 1907 .

و أولت ثورة يوليو اهتماما كبيرا بالثقافة والفنون ومن بينها الفن السابع حيث تمثل مرحلة “الخمسينيات والستينيات ” فترة مضيئة فى مسيرتها من حيث عدد الأعمال وجودتها.

لكن “يوليو ” التي ما تزال تثير الجدل بين أنصارها وخصومها قد عرفت نفس الاختلاف والتناقض بين الطرفين على شاشات السينما فنرى عددا من الأعمال التي تتغنى بالتغيير الذي صنعته “يوليو ” بينما تطل علينا حقبة السبعينيات بعدد من الأفلام تنهش في جسد الثورة بعد أن رحل زعيمها “جمال عبد الناصر ” عام 1970 وهو نفسه الذي سمح بظهور بعض الأفلام التى تنتقد الثورة وتنظيماتها السياسية بعنف خاصة فى مرحلة ما بعد نكسة 1967 مثل أفلام “شيء من الخوف ” للمخرج كمال الشيخ وثرثرة فوق النيل للمخرج حسين كمال وغيرهما.

سينما الثورة

أدركت ثورة يوليو مبكرا أهمية السينما كإحدى الأدوات الفنية التي يجب دعمها بقوة خاصة في ظل تبنى “يوليو “لمشروع وطني يسعى لاستعادة دور مصر الإقليمي والعالمي ،  ومن ثم رأت ضرورة دعم كل مفردات قوتها الناعمة هذا ما دفعها لإنشاء عدد من المؤسسات والمنشآت التي تدعم هذا التوجه من أهمها “المؤسسة العامة لصناعة السينما ” و”أكاديمية الفنون ” والتوسع فى إنشاء دور العرض السينمائي فى مختلف مدن مصر كل هذا صنع بنية تحتية قوية ما زالت تمثل رصيدا وطنيا لمختلف الفنون – رغم التراجع الكبير الذى شهدته فترة ما بعد يوليو –

ارتبط الوجدان المصري بعدد من الأفلام الكلاسيكية التي تتناول احداث ثورة يوليو ومنها ، «في بيتنا رجل»، «رد قلبي»، «أنا حرة»، «الباب المفتوح»، «الأيدي الناعمة»، ومؤخرا أفلام «ناصر 56»، و”أيام السادات” ».

https://www.youtube.com/watch?v=osnz1TBC2G4

لكن البداية كانت مع فيلم “الله معنا ” عام 1955 وكان عرضه الأول يوم 14 نوفمبر من نفس السنة. الفيلم من إخراج أحمد بدرخان وشارك فى كتابته مع احسان عبد القدوس وهو الفيلم الذي تناول حرب 1948 وهى ما تعرف بحرب فلسطين وصولا إلى قيام ثورة يوليو .

وقد  تعرض  الفيلم لأزمة رقابية تسببت فى منعه بسبب تقديمه شخصية اللواء محمد نجيب وكان دوره محوريا وتظلم القائمون عليه لمجلس قيادة الثورة، فأجازه جمال عبد الناصر وحضر العرض الأول بنفسه بسينما ريفولي في 14 نوفمبر ليصبح “الله معنا ” أول فيلم يحضر رئيس الجمهورية عرضه الأول.

وتميزت تلك المرحلة بتقديم عدد من الأعمال التي تناولت أحداث حرب 1948 ودور الضباط المصريين بها مثل فيلم «أرض الأبطال» لنيازي مصطفى عام 1953

كما استعانت الثورة بالسينما في توثيق أحداث العدوان الثلاثي على مصر حيث كلف عبد الناصر الفنان فريد شوقي بصناعة عمل  يتناول العدوان الغادر وتم تقديم فيلم “بور سعيد الباسلة “عام 1957 من اخراج عز الدين ذو الفقار وبطولة “ملك الترسو ” وهدى سلطان

وتعرضت السينما لما تحقق في مجال الاصلاح الزراعي، وتحديد الملكية الزراعية وتوزيع الارض على الفلاحين، وقدمت فيلم «الأرض الطيبة» اخراج محمود ذو الفقار، عام 1954، ثم فيلم «أرضنا الخضراء» اخراج أحمد ضياء الدين عام 1956وهى نفس التنويعة التي عزف عليها “يوسف شاهين ” في «صراع فى الوادي» عام 1954لكن بشكل أكثر عمقا وحرفيه وابهارا

وكان فيلم “رد قلبي” الذي عرض عام 1957 للمخرج ” عز الدين ذو الفقار “من الأعمال التي تناولت ثورة 23 يوليو وتعرضت لشكل الحياة في مصر ما قبل الثورة وركز صناع العمل على الجوانب الاجتماعية وتركيبة المجتمع المصري التي سبقت قيام الثورة والتي جعلت منه مجتمعا يعيش حالة من التفاوت الطبقي الصارخ.

وعلى الرغم من تقليدية قصة ” يوسف السباعي ” إلا أن الفيلم صار واحدا من الأعمال التي ارتبطت بالثورة وظلت إحدى أيقونات السينما فى هذا السياق

وفى عام 1961 قدم المخرج “هنري بركات ” قصة ” إحسان عبد القدوس “في بيتنا رجل ” والذى رصد جانبا من نضالات الشعب المصري ضد الاحتلال وتُختتم أحداثه بقيام ثورة يوليو .

وفى عام 1966 يقدم المخرج “صلاح أبوسيف ” رائعة “القاهرة 30 ” عن قصة “نجيب محفوظ ” وكتب السيناريو والحوار صلاح أبو سيف، على الزرقاني، لطفي الخولي ويعتبر أحد أهم الأعمال التي تناولت فترة ما قبل يوليو والفساد السياسي والاجتماعي الذي شهدته مصر خلال حكم الملك وسيطرة الاحتلال البريطاني

وأصبحت شخصية “محجوب عبد الدايم ” فى الوجدان العربي  رمزا  للانتهازية وبيع القيم من أجل الحصول على مكاسب مالية ووظيفية كما تتحول شخصية ” على طه ” إلى أيقونة للنضال الوطني ودفع ضريبة الدفاع عن كرامة الوطن بالاستشهاد برصاص الاحتلال.

سينما تقدمية

 كذلك قامت السينما بتحويل عدد من الأعمال الأدبية إلى اعمال سينمائية وقام كتاب السيناريو بإضافة احداث وطنية مرتبطة بالمقاومة وثورة يوليو كما حدث فى فيلم «أنا حرة» لصلاح أبو سيف والذى كتب له السيناريو “نجيب محفوظ “

وهذا ما شاهدناه أيضا فى  فيلم «الباب المفتوح» لبركات المأخوذ عن قصة “لطيفة الزيات ” وهو الأقرب لسيرتها الذاتية كما قدم صلاح أبو سيف أيضا قصة “يوسف إدريس «لا وقت للحب»

ومن الملامح التي تميزت بها سينما ما بعد يوليو كان ذلك الاهتمام الواضح بقيمة العمل والتقدير الكبير للعمال والحرفيين وقدمت السينما أعمالا عديدة تحتفى بالجهد البشرى والقيم التقدمية وإعلاء شأن المرأة كشريك أساسي فى المجتمع ومن بين هذه الأعمال “الأسطى حسن ” و” الأيدي الناعمة ” و”مراتى مدير عام ” وغيرها الكثير التي استلهمت روح ومبادئ يوليو الاجتماعية .

ثورة مضادة وسينما مضادة

رحل جمال عبد الناصر فى سبتمبر 1970 بشكل مفاجئ تاركا حزنا مقيما فى قلوب الملايين وما تزال الأرض تدنسها أحذية الاحتلال الصهيوني ورغم بطولات حرب الاستنزاف بقي الجرح مفتوحا باتساع حدود الوطن

تولى “أنور السادات ” الحكم وانحنى أمام تمثال عبد الناصر في مجلس الأمة مقسما أن يسير على خطى الزعيم !!!!

بعد أقل من عام كانت ما أسماها السادات “ثورة التصحيح ” التي اعتبرها البعض “ثورة مضادة “

 ولم تكن السينما بعيدة عن هذا المناخ الذي ظهرت عليه ملامح عداء واضح لكل ما كان  قبل تولى السادات للحكم.

توقفت الدولة شيئا فشئيا عن دعم مؤسسة السينما حتى غاب دورها  تماما وفى نفس الوقت ظهر عدد من الأفلام – التي سمح نظام الحكم بعرضها – تنهش في جسد يوليو بقوة وتشفى وعلى الرغم من أن “ناصر ” قد سمح بنفسه بعرض عدد من الأعمال الفنية التي تنتقد الثورة بشكل مباشر أو باستخدام الرمز مثل “شيء من الخوف “و “ميرامار “و “ثرثرة فوق النيل”.

 وهكذا شهدت  السينما المصرية في عصر السادات  موجة من الأعمال التى تناولت مرحلة حكم “ناصر ” ومن بينها فيلم “الكرنك ” المأخوذ عن قصة “نجيب محفوظ وسيناريو وحوار ” ممدوح الليثي ” وتناول القمع والتعذيب الذى شهدته السجون المصرية.

كما قدم  حسين كمال  ” فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس ” الذي تعرض لقضية التعذيب البدني والنفسي لعدد من الأبرياء الذين ألقى القبض عليهم عن طريق الخطأ فى إطار حالة القبض العشوائي على المواطنين.

وبقيت السينما أسيرة لأهواء أنظمة الحكم المتعاقبة سواء بالتأييد الكامل للثورة خلال حكم “ناصر ” أو بالنقد الكامل والتشويه المستمر خلال حكم السادات وسقط فيما بين الحالتين ظهور عمل سينمائي كبير يرصد مرحلة ثورة يوليو ويتناولها بقدر من العمق والتحليل ويظل هذا الأمر حلما ينتظر ان يتحقق بعد مرور  حوالي  7 عقود على الثورة و5 عقود على رحيل زعيمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock