لم تكن محاولة استكشاف منابع نهر النيل والوصول إليها أمراً قاصراً على المستكشفين والرحالة الأوروبيين بداية من القرن التاسع عشر الميلادي كما صورت الدعاية الاستعمارية المكثفة.
اذ يوضح الكاتب أنطون ذكري في كتابه “النيل في عهد الفراعنة والعرب” والذي وضعه في ثلاثينات القرن العشرين أن ملوك مصر القديمة شغلتهم مسألة منبع النهر الذي يروي مملكتهم التي يتربعون على عرشها٫ وسعوا لسبر أغوار هذه المسألة.
حيث بعث رعمسيس الثاني ببعثة لمحاولة استكشاف هذه المنابع وفي عهد الأسرة السادسة والعشرين٫ تم إرسال بعثة مكونة من نحو ربع مليون رجل لذات الغرض٫ إلا أن البعثة عادت بكشوف جغرافية محدودة وفقاً لمؤلف الكتاب.
آراء متباينة
ومع دخول الإسلام إلى مصر واكتمال عملية تعريب البلاد٫ شغلت مسألة منابع النيل الكتاب والمؤرخين والجغرافيين العرب على حد سواء وحاولوا بشكل حثيث الوصول الى ما لم يصل إليه من سبقوهم في حكم مصر.
ويشير المؤلف إلى أن الفقيه المصري الإمام أحمد المنوفي صرف وقتاً وعزماً شديدين لمحاولة تتبع منابع النيل في كتابه “الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد” والذي تناول فيه من خلال أبحاث وافية منابع النيل وامتداداته وطوله وعرضه.
وأورد الإمام المنوفي فصلاً في هذا الكتاب لرأي العرب في هذه المسألة أي منابع النيل٫ فالامام الحافظ ابن كثير يرى أن النيل ينبع من جبل غربي خط الاستواء ومياهه تنبع من صخور تنبثق من بينها عيون.
والنيل عند ابن كثير هو نتاج تجمع مياه هذه العيون والتقاء أكثر من نهر٫ وحينها يمر النيل على الحبشة ثم على أرض النوبة ثم يصل أعلى ديار اسوان ثم يطل على بقية الأراضي المصرية.
أما ابن القيم فيقول بشكل لا يخلو من المبالغة أن “النيل أحد أركان الجنة” ويأتي من أقصى أرض الحبشة من “أمطار تجتمع هناك وسيول يجر بعضها بعضاً” ثم يسوق الله تعالى تلك المياه إلى أرض مصر في نهر عظيم.
أما الجغرافي محمد الادريسي فينسب في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” منبع النيل إلى بحيرة تدعى كوري في افريقيا ويمر ببلاد السودان ثم النوبة ثم “يأخذ إلى الشمال فيكون على شرقيه مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين هما مكتنفان لأعمال مصر أحدهما شرقي والآخر غربي، حتى يأتي مدينة مصر، وهي الفسطاط الذي بناه عمرو بن العاص، فيكون على شرقيه، فإذا ُ جاوزها انقسم كما تقدم”.
حقائق وأساطير
ويورد المؤلف قصة منسوبة إلى والي مصر ومؤسس الدولة الطولونية أحمد بن طولون تتضح فيها الرؤية الأسطورية التي أضفاها كثيرون على النيل ومنابعه وهي باختصار ان ابن طولون قد سأل شيخا كبيراً من علماء القبط، عمره مائة وثلاثون عاماً: “أين منتهى النيل في أعلاه؟ فقال: البحيرة التي لا يُدَرك طولها وعرضها، وهي نحو الأرض التي الليل فيها والنهار متساويان طول الدهر، وهي تحت الموضع الذي يسمى عند المنجمين الفلك المستقيم”.
وبعيداً عن مدى صحة القصة٫ فإنها تبين كيف كانت منابع النيل مسألة تختلط فيها الحقائق بالأساطير في تلك المرحلة التاريخية.
ويرى مؤرخ آخر ان طول النيل هو ” أربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وسبعون ًميلا، وعرضه في بلاد الحبشة والنوبة ثلاثة أميال فما دونها، وعرضه بمصر ثلثا ميل، ً ليس يشبهه نهر من الأنهار”.
والنيل عند المؤرخ المصري الحسن بن زولاق هو أطول الأنهار بشكل عام حيث “أجمع أهل العلم على أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى من ِ النيل؛ يسري مسيرة شهر في الإسلام” بل وذهب الى أبعد من ذلك حيث اعتبر ان النيل “يصب في بحر الروم والصين” وهو نموذج آخر لدمج الحقيقة مع الاسطورة.
مما تقدم٫ يمكن القول ان النيل ومنابعه ظل لغزاً حير المؤرخين قبل اكتشاف تلك المنابع بقرون عدة٫ ولعل هذه الحيرة تحديداً هي ما جعلهم يضفون على نهر النيل صفات أسطورية خصوه بها دون أي نهر آخر في العالم.